مقدمة:
تُعد جريمة غسيل الأموال من أخطر الجرائم العابرة للحدود التي تهدد الاستقرار المالي والاقتصادي للدول. وفي ظل الجهود المستمرة لسلطنة عمان لمكافحة هذه الظاهرة عبر المرسوم السلطاني رقم 30 / 2016 بإصدار قانون مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، يتوجب على النظام العدلي الموازنة الدقيقة بين قسوة العقوبة وضمانة الحقوق الأساسية للمتهم. إن الركيزة التي يقوم عليها هذا التوازن هي البراءة الأصلية للمتهم، وهو مبدأ دستوري يحمي كل فرد يواجه اتهاماً، مهما كانت خطورته.
في هذا المقال، نستعرض كيف يتجسد مبدأ “المتهم بريء حتى تثبت إدانته” في مراحل التحقيق والمحاكمة في قضايا غسيل الأموال في القانون العماني، وما هي الأدوات القانونية التي يجب على الدفاع استخدامها لتفعيل هذه الضمانة.
الفصل الأول: البراءة الأصلية.. الركيزة الدستورية في التشريع العماني
إن مبدأ الأصل في الإنسان البراءة ليس مجرد قاعدة إجرائية، بل هو فلسفة أخلاقية وقانونية عميقة، تضمن أن سلطة الدولة في العقاب لا تتحول إلى تعسف.
الأساس القانوني في سلطنة عمان
نص قانون الجزاء العماني الصادر بالمرسوم السلطاني رقم 7 / 2018 على هذا المبدأ بشكل صريح وواضح في المادة 4 التي تنص على:
“المتهم بريء حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية تؤمن له فيها الضمانات الضرورية لممارسة حق الدفاع وفقاً للقانون، ولا يؤخذ شخص بجريمة غيره.”
هذا النص الدستوري يُلزم جميع سلطات الدولة – بدءاً من الشرطة والادعاء العام وصولاً إلى المحكمة الجزائية – بالتعامل مع المتهم، حتى في أخطر القضايا كـ غسيل الأموال، كشخص بريء. وتتطلب هذه البراءة الأصلية تفعيل ضوابط صارمة تضمنها القانون في مراحل الإجراءات الجزائية.
البراءة في مواجهة خطورة الجريمة
تعتبر جريمة غسيل الأموال جريمة جسيمة، تصل عقوبتها في القانون العماني إلى السجن لمدة قد تزيد على عشر سنوات وغرامات مالية ضخمة لا تقل عن قيمة الأموال المغسولة. وعلى الرغم من هذه الخطورة والعقوبات الشديدة، يبقى المبدأ قائماً: لا يجوز التضحية بحقوق الفرد من أجل سرعة الوصول إلى الإدانة. هذا المبدأ يضع عبء الإثبات كاملاً على عاتق الادعاء العام.
الفصل الثاني: البراءة الأصلية كقاعدة للدفاع في غسيل الأموال
تتجسد البراءة الأصلية للمتهم في قضايا غسيل الأموال عبر ثلاثة محاور أساسية تتعلق بطبيعة الجريمة ذاتها:
1. الاستقلال عن الجريمة الأصلية وعبء الإثبات
تنص المادة 7 من قانون مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب العماني على أن:
“تعد جريمة غسل الأموال جريمة مستقلة عن الجريمة الأصلية، ولا يمنع الحكم على المتهم في الجريمة الأصلية من الحكم عليه عن جريمة غسل الأموال التي نتجت عنها. ولا تشترط الإدانة في الجريمة الأصلية لإثبات أن الأموال هي عائدات الجريمة.”
هذه الاستقلالية لا تعني تهاوناً في ضمانة البراءة، بل تفرض تحدياً إضافياً على الادعاء العام. يجب على الادعاء إثبات أمرين أساسيين لإدانة المتهم في غسيل الأموال، وهما:
-
وجود عائدات جريمة: يجب إثبات أن الأموال محل الجريمة هي في الأصل ناتجة عن “جريمة أصلية” (كالمخدرات، أو الفساد، أو الاحتيال)، ولا يكفي الاشتباه.
-
العنصر القصد الجنائي (العلم): يجب إثبات أن المتهم قام بأفعال غسيل الأموال (تحويل، أو إخفاء، أو تملك) مع علمه أو اشتباهه بأن هذه الأموال هي عائدات جريمة.
هنا يتدخل مبدأ البراءة الأصلية؛ ففي حال عجز الادعاء عن إثبات العنصر المعنوي (القصد) بشكل قاطع وجازم، يجب على المحكمة تفسير الشك لمصلحة المتهم والحكم بالبراءة، لأن الأحكام الجزائية تُبنى على الجزم واليقين لا على الشك والتخمين.
2. حق المتهم في الاستعانة بمحامٍ
يعتبر حق المتهم في الاستعانة بمحامٍ جوهرياً لتفعيل مبدأ البراءة الأصلية. هذا الحق مكفول في القانون العماني ويسري على جميع مراحل التحقيق والمحاكمة.
-
ضمانة التحقيق: يجب تمكين المحامي من الحضور الفعال في جلسات التحقيق لدى الادعاء العام، وخاصة في جرائم الجنايات كغسيل الأموال. ويؤدي غياب المحامي في الحالات الوجوبية إلى بطلان الإجراءات.
-
حق الدفاع الفعال: دور المحامي هو ضمان أن يتم التعامل مع المتهم كشخص بريء، ومواجهة الأدلة المقدمة ضده، والرد على حجج الادعاء، وإظهار أوجه الشك أو النقص في الأدلة التي تمس ركن العلم أو مصدر الأموال.
3. بطلان الإجراءات والاعترافات المنتزعة
من أهم مقتضيات مبدأ البراءة الأصلية هو حماية المتهم من الإكراه أو الإيذاء أثناء التحقيق. إذا تم انتزاع أقوال أو اعترافات تحت أي شكل من أشكال الإكراه (النفسي أو المادي) أو نتيجة لإجراءات تحقيق غير قانونية، فإن هذه الأقوال تعتبر باطلة ولا يجوز الاستناد إليها في الإدانة. في قضايا غسيل الأموال التي قد تتسم بضغط تحقيق مرتفع، يجب على الدفاع التركيز على سلامة الإجراءات والبحث عن أي مخالفة قانونية لتفعيل قاعدة “ما بني على باطل فهو باطل”.
الفصل الثالث: دور المحكمة في ترسيخ البراءة الأصلية
المحكمة الجزائية في سلطنة عمان هي الحصن الأخير لضمان تفعيل البراءة الأصلية للمتهم. يتطلب ذلك من القضاة تطبيق معايير صارمة في تقدير الأدلة:
1. القاعدة الذهبية: تفسير الشك لمصلحة المتهم
عندما يطرأ الشك على أي دليل في ملف قضية غسيل الأموال (مثل مصدر الأموال المشتبه بها، أو كيفية ارتباط المتهم بالجريمة الأصلية، أو مدى توفر القصد الجنائي)، يجب على القاضي أن يفسر هذا الشك لمصلحة المتهم. هذا المبدأ يعكس الاعتراف بأن إدانة بريء أشد خطراً على العدالة من تبرئة مذنب.
في قضايا غسيل الأموال، قد ينشأ الشك حول:
-
مشروعية مصدر الأموال: هل الأدلة المقدمة تثبت بشكل قاطع أن الأموال هي عائدات جريمة؟
-
علم المتهم: هل مجرد تحويل الأموال أو إدارتها يعني بالضرورة علم المتهم بأنها أموال غير مشروعة، أم كان يتصرف بحسن نية أو جهل؟
2. متطلبات الأدلة الجازمة
يجب أن تكون الأدلة التي يستند إليها الحكم بالإدانة في جريمة غسيل الأموال أدلة جازمة وقاطعة ومتساندة، ولا تقبل أي احتمال آخر. لا يمكن بناء الحكم على مجرد التخمينات أو التحليلات المالية التي لا تدعمها وقائع مادية أو شهادات مؤكدة. يجب أن تكون عناصر الجريمة (الفعل المادي، القصد الجنائي، الارتباط بالجريمة الأصلية) مُثبتة بما لا يدع مجالاً للريب.
الفصل الرابع: تحديات البراءة الأصلية في قضايا غسل الأموال
على الرغم من رسوخ مبدأ البراءة، فإن قضايا غسيل الأموال تواجه تحديات فريدة تضع هذا المبدأ تحت الاختبار:
1. التعقيد المالي والتحليل الرقمي
تعتمد هذه الجرائم على شبكات معقدة من التحويلات والمعاملات الرقمية. قد يواجه المتهم صعوبة في إثبات براءته أمام تقارير مالية معقدة، وهنا يبرز دور الدفاع في الاستعانة بالخبراء الماليين لتفنيد تحليلات الادعاء وتقديم تفسيرات بديلة ومشروعة للمعاملات المالية للمتهم.
2. الإجراءات الاحترازية (التجميد والمصادرة)
يسمح القانون باتخاذ إجراءات سريعة لتجميد ومصادرة الأموال المشتبه بها كعائدات غسيل أموال، وذلك قبل صدور حكم الإدانة. هذه الإجراءات، رغم ضرورتها لحماية الاقتصاد، تتعارض ظاهرياً مع البراءة الأصلية، مما يجعل المتهم في وضع مالي صعب. هنا، يجب على الدفاع تقديم مذكرات قوية للطعن في أوامر التجميد والمصادرة، وإثبات مشروعية مصدر الأموال، مما يعيد الموازنة القانونية قبل صدور حكم الإدانة النهائي.
3. النظرة المجتمعية المسبقة
تؤثر خطورة الجريمة وتغطيتها الإعلامية في بعض الأحيان على النظرة المجتمعية للمتهم، مما يخلق ضغطاً غير مباشر على سير العدالة. في هذه الحالة، يصبح الدفاع ملزماً بتوجيه النقاش داخل قاعة المحكمة نحو الأدلة القانونية فقط، وتذكير القضاء بأن الإدانة لا تتقرر إلا بالحكم القضائي البات، وأن البراءة هي الأصل الذي لا يُزال إلا بيقين.
الخلاصة والدعوة لاتخاذ إجراء
إن مبدأ “المتهم بريء حتى تثبت إدانته” يظل حجر الزاوية في منظومة العدالة في سلطنة عمان، خاصة في قضايا غسيل الأموال المعقدة. هذه القاعدة تلزم الادعاء العام بتقديم أدلة دامغة لا تقبل الشك على ارتكاب المتهم للجريمة وقصده الجنائي بها.
بالنسبة لأي شخص يواجه اتهاماً في جريمة غسيل الأموال، فإن مفتاح الدفاع يكمن في توكيل فريق قانوني متخصص قادر على:
-
المطالبة بكافة الضمانات الدستورية وحق الدفاع الكامل.
-
التدقيق في الإجراءات والطعن في أي مخالفة (كغياب المحامي أو الإكراه).
-
تفنيد ركن العلم والقصد الجنائي، وإظهار الشك في عائدات الجريمة الأصلية.
لا يمكن للحكم بالإدانة أن يصدر إلا إذا زالت البراءة الأصلية للمتهم بيقين مطلق. وفي حال غياب هذا اليقين، فإن القضاء العماني يجد ملاذه في تطبيق القاعدة العادلة: البراءة هي المصير القانوني للمتهم.
إذا كنتم بحاجة إلى توكيل فريق قانوني متخصص لإعداد مذكرات الدفاع، وتحليل ملفات غسيل الأموال المعقدة، وتفعيل مبدأ البراءة الأصلية لصالحكم، فنحن هنا لمساعدتكم وتقديم الدعم القانوني اللازم في سلطنة عمان.