بقلم المحامي والمحكم/يوسف الخضوري

مقدمة:
يشكل قانون العمل الإطار القانوني الذي ينظم العلاقة بين أصحاب العمل والعمال، ويهدف إلى تحقيق التوازن بين مصالح الطرفين وضمان حقوقهما وواجباتهما. وتبرز المادتان (٨) و (٩) من هذا القانون كركيزتين أساسيتين في تعزيز بيئة عمل عادلة وفعالة، حيث تتناول المادة (٨) إلزام أصحاب العمل بوضع نظام للشكاوى والتظلمات، بينما تحدد المادة (٩) آلية تسوية منازعات العمل قبل اللجوء إلى القضاء. يهدف هذا المقال إلى تحليل معمق لهاتين المادتين، وبيان أهميتهما في تنظيم علاقات العمل وحماية حقوق العامل وصاحب العمل على حد سواء.
المادة (٨): إلزامية نظام الشكاوى والتظلمات
تفرض المادة (٨) من قانون العمل التزامًا واضحًا على أصحاب العمل الذين يشغلون خمسين عاملاً فأكثر بوضع نظام داخلي للشكاوى والتظلمات في المنشأة. هذا النظام لا يعتبر مجرد إجراء شكلي، بل هو آلية قانونية تهدف إلى تحقيق جملة من الأهداف الهامة:
- ضمان حق العامل في التعبير عن مظالمه: يمنح هذا النظام العامل الحق في رفع شكواه أو تظلمه إلى صاحب العمل أو من يمثله بشكل رسمي ومنظم، مما يوفر له قناة واضحة للتعبير عن أي إخلال بحقوقه أو أي ممارسات يراها غير عادلة في بيئة العمل.
- توفير آلية داخلية لحل النزاعات: يتيح وجود نظام للشكاوى والتظلمات فرصة لتسوية الخلافات والمنازعات العمالية داخل المنشأة نفسها، قبل تفاقمها ووصولها إلى الجهات الرسمية أو المحاكم. هذا يساهم في الحفاظ على استقرار علاقات العمل وتجنب الآثار السلبية للنزاعات الطويلة.
- تعزيز الشفافية والعدالة في بيئة العمل: إن إلزام صاحب العمل بوضع نظام واضح ومعتمد للشكاوى والتظلمات يعكس التزامًا بمبادئ الشفافية والعدالة، ويشعر العامل بأن هناك آلية رسمية يمكنه اللجوء إليها في حال تعرضه لأي ظلم أو إجحاف.
- تمكين العامل من الحصول على نسخة معتمدة من النظام: يلزم القانون صاحب العمل بتمكين العامل من الحصول على نسخة معتمدة من نظام الشكاوى والتظلمات، مما يضمن وعي العامل بحقوقه وإجراءات تقديم الشكوى والتظلم. هذه الشفافية تعزز الثقة بين الطرفين.
- دور الجهة المختصة في الاعتماد: يشترط القانون اعتماد نظام الشكاوى والتظلمات من قبل الجهة المختصة، مما يضمن توافق النظام مع أحكام القانون والمعايير العادلة، ويضفي عليه قوة رسمية.
إن تطبيق المادة (٨) بشكل فعال يتطلب من صاحب العمل ليس فقط وضع النظام، بل أيضًا تفعيله وتوعية العاملين به، وضمان التعامل مع الشكاوى والتظلمات بجدية وشفافية وسرعة. إن وجود نظام فعال للشكاوى والتظلمات يساهم في خلق بيئة عمل أكثر إنتاجية واستقرارًا، ويقلل من احتمالية نشوء نزاعات عمالية قد تستنزف الوقت والجهد والموارد.
المادة (٩): آلية تسوية منازعات العمل قبل اللجوء إلى القضاء
تضع المادة (٩) من قانون العمل آلية إلزامية لتسوية منازعات العمل قبل اللجوء إلى المحاكم المختصة. هذه الآلية تهدف إلى تخفيف العبء على القضاء وتشجيع الحلول الودية للنزاعات العمالية. تتضمن هذه المادة عدة جوانب هامة:
- إلزامية تقديم طلب التسوية: لا يجوز للعامل أو صاحب العمل رفع دعوى قضائية بشأن منازعات العمل الناشئة عن المطالبة بالحقوق المنصوص عليها في قانون العمل أو عقد العمل مباشرة إلى المحكمة المختصة. بل يتوجب عليه أولاً تقديم طلب للتسوية إلى التقسيم الإداري المختص في الوزارة.
- مهلة التسوية: يحدد القانون مدة أقصاها ثلاثون يومًا من تاريخ تقديم طلب التسوية للتقسيم الإداري المختص في الوزارة، تتولى خلالها الوزارة مساعي التسوية بين أطراف النزاع. هذه المهلة تهدف إلى حث الأطراف على التوصل إلى حل ودي في أسرع وقت ممكن.
- إثبات الصلح وتنفيذه: إذا نجحت مساعي التسوية وتم التوصل إلى اتفاق بين الأطراف أمام التقسيم الإداري المختص في الوزارة، يتم إثبات هذا الصلح في محضر يوقعه الأطراف والموظف المختص في الوزارة ومن ينتدبه من القضاة. يكتسب هذا المحضر قوة السند التنفيذي، مما يعني أنه يمكن تنفيذه مباشرة دون الحاجة إلى رفع دعوى قضائية بشأنه، وينتهي به النزاع في حدود ما تم الصلح فيه. كما يتم منح صورة رسمية من المحضر مذيلة بالصيغة التنفيذية وفقًا لقانون الإجراءات المدنية والتجارية.
- إحالة النزاع إلى المحكمة في حال فشل التسوية: في حال فشل مساعي التسوية بين أطراف النزاع، يلتزم التقسيم الإداري المختص في الوزارة بإحالة النزاع إلى المحكمة المختصة خلال سبعة أيام من تاريخ آخر جلسة للتسوية. ويجب أن تكون الإحالة مشفوعة بمذكرة تتضمن كافة التفاصيل المتعلقة بالنزاع، بما في ذلك وقائعه، وأسماء الأطراف وموطنهم، وبيان أجر العامل والطلبات في الدعوى، وإرفاق صورة من عقد العمل وكافة المستندات ذات الصلة. هذه الإجراءات تهدف إلى تسهيل مهمة المحكمة وتسريع عملية الفصل في النزاع.
- سقوط الحق في المطالبة بالحقوق: تحدد المادة (٩) مدة تقادم لسقوط الحق في المطالبة بأي حق من الحقوق المنصوص عليها في قانون العمل، وهي عام واحد من تاريخ استحقاق الحق. وبالنسبة للحقوق التي نشأت قبل العمل بهذا القانون، تبدأ مدة العام في الحساب من تاريخ العمل بأحكامه. هذه المدة تهدف إلى تحقيق الاستقرار القانوني وحث الأطراف على المطالبة بحقوقهم في وقت معقول.
إن الآلية التي وضعتها المادة (٩) تعكس توجهًا نحو تشجيع الحلول الودية للنزاعات العمالية وتخفيف الضغط على النظام القضائي. كما أنها تضع إطارًا زمنيًا واضحًا لإجراءات التسوية ورفع الدعوى، مما يساهم في تحقيق العدالة الناجزة.
أهمية المادتين (٨) و (٩) في تنظيم علاقات العمل:
تتكامل المادتان (٨) و (٩) في تحقيق تنظيم فعال وعادل لعلاقات العمل. فالمادة (٨) تعمل على توفير آلية داخلية للتعامل مع الشكاوى والتظلمات ومنع تفاقمها، بينما توفر المادة (٩) آلية رسمية ومُلزمة لتسوية المنازعات التي لم يتم حلها داخليًا قبل اللجوء إلى القضاء.
إن وجود نظام فعال للشكاوى والتظلمات بموجب المادة (٨) يمكن أن يقلل بشكل كبير من عدد المنازعات التي تصل إلى مرحلة التسوية الإلزامية بموجب المادة (٩). فالحلول الداخلية السريعة والمنصفة للشكاوى يمكن أن تمنع تحولها إلى نزاعات قانونية معقدة.
بالإضافة إلى ذلك، فإن إلزامية التسوية قبل اللجوء إلى القضاء بموجب المادة (٩) يشجع الأطراف على الحوار والتفاوض والتوصل إلى حلول وسط ترضي الطرفين، بدلاً من الانخراط في إجراءات قضائية طويلة ومكلفة. كما أن قوة السند التنفيذي التي يتمتع بها محضر الصلح تضمن تنفيذ الاتفاقات التي يتم التوصل إليها بشكل فعال.
أخيرًا، فإن تحديد مدة تقادم لسقوط الحق في المطالبة بالحقوق بموجب المادة (٩) يساهم في تحقيق الاستقرار القانوني ويحفز الأطراف على المطالبة بحقوقهم في الوقت المناسب.
التحديات والتوصيات:
على الرغم من أهمية المادتين (٨) و (٩)، قد تواجه بعض التحديات في التطبيق العملي. على سبيل المثال، قد لا يكون لدى بعض المنشآت الصغيرة القدرة الكافية على وضع نظام فعال للشكاوى والتظلمات. كما أن فعالية آلية التسوية في الوزارة تعتمد على توفر الكفاءات وال resources اللازمة لإجراء هذه التسويات بشكل فعال وسريع.
لتعزيز فعالية هاتين المادتين، يمكن اقتراح بعض التوصيات:
- توفير نماذج إرشادية لأنظمة الشكاوى والتظلمات: يمكن للجهات المختصة توفير نماذج إرشادية لأنظمة الشكاوى والتظلمات لمساعدة المنشآت، خاصة الصغيرة والمتوسطة، على وضع أنظمة تتوافق مع القانون.
- تعزيز قدرات التقسيم الإداري المختص في الوزارة: يجب تزويد التقسيم الإداري المختص في الوزارة بالموظفين المؤهلين والمدربين والموارد اللازمة للقيام بمهام التسوية بكفاءة وفعالية.
- توعية أصحاب العمل والعمال بحقوقهم والتزاماتهم: يجب تكثيف حملات التوعية بأحكام قانون العمل، وخاصة فيما يتعلق بنظام الشكاوى والتظلمات وآلية تسوية المنازعات، لضمان وعي جميع الأطراف بحقوقهم والتزاماتهم.
- تطوير آليات بديلة لتسوية المنازعات: يمكن التفكير في تطوير آليات بديلة لتسوية المنازعات العمالية، مثل الوساطة والتحكيم، لتوفير خيارات إضافية للأطراف لحل خلافاتهم بشكل ودي وسريع.
الخلاصة:
تعتبر المادتان (٨) و (٩) من قانون العمل من المواد الأساسية التي تساهم بشكل كبير في تنظيم علاقات العمل وتحقيق العدالة بين أصحاب العمل والعمال. فالمادة (٨) تفرض التزامًا هامًا على المنشآت الكبيرة بوضع نظام داخلي للشكاوى والتظلمات، مما يوفر آلية أولية لحل الخلافات وتعزيز الشفافية. أما المادة (٩) فتضع آلية إلزامية لتسوية منازعات العمل قبل اللجوء إلى القضاء، وتشجع الحلول الودية وتخفف العبء على المحاكم. إن التطبيق الفعال لهاتين المادتين، إلى جانب الجهود المستمرة لتعزيز الوعي القانوني وتطوير آليات تسوية المنازعات، يمثل خطوة هامة نحو بناء بيئة عمل مستقرة وعادلة تخدم مصالح جميع الأطراف.
قانون العمل https://qanoon.om/p/2023/rd2023053/
رابط مقال /https://law-yuosif.com/قانون-العمل-العماني-حماية-الحقوق-وتنظ/
رابط مقال/https://law-yuosif.com/دعوى-التعويض-في-القانون-العماني/
رابط/https://law-yuosif.com/شرح-المنافسة-غير-المشروعة-في-القانون-ا/
رابط نموذج للاستمارة الشكوى/https://law-yuosif.com/تحميل-نموذج-شكوى-حماية-المستهلك-عمان/