المحامي يوسف الخضوري | استشارات قانونية

بقلم: المحامي والمستشار القانوني يوسف الخضوري

حماية للعامل من التعسف في نظام العمل السعودي

مقدمة

في خضم التطورات الاقتصادية والاجتماعية المتسارعة التي تشهدها المملكة العربية السعودية، يبرز نظام العمل كركيزة أساسية لتنظيم العلاقة بين طرفي الإنتاج: العامل وصاحب العمل. ولأن هذه العلاقة غالباً ما تتسم بعدم تكافؤ في القوة التفاوضية، فقد أولى المشرع السعودي اهتماماً خاصاً بحماية الطرف الأضعف، وهو العامل، وذلك من خلال ترسيخ مبادئ قانونية تضمن حقوقه وتحمي مصالحه. وتأتي المادة الثامنة من نظام العمل السعودي في صميم هذه الحماية، لتشكل درعاً قانونياً صلباً يحول دون استغلال العامل أو الانتقاص من حقوقه المستحقة.

إن المتأمل في طبيعة العلاقة التعاقدية في سوق العمل يدرك تمام الإدراك أن العامل غالباً ما يكون في موقع أضعف مقارنة بصاحب العمل. فالبحث عن مصدر رزق وتأمين مستقبل كريم لنفسه ولأسرته قد يضطره أحياناً إلى القبول بشروط عمل قد لا تكون في صالحه تماماً، خوفاً من البطالة أو الحاجة الماسة للدخل. من هنا، تبرز حكمة التشريع في التدخل لإعادة التوازن إلى هذه العلاقة، وفرض قيود على حرية التعاقد المطلقة لصالح تحقيق العدالة الاجتماعية وحماية الحقوق الأساسية للعامل.

لقد تبنى نظام العمل السعودي، على غرار العديد من التشريعات العمالية المقارنة، فلسفة تقوم على اعتبار أن قواعد العمل هي قواعد آمرة لا يجوز الاتفاق على مخالفتها إذا كانت المخالفة تنتقص من حقوق العامل المقررة نظاماً. وهذا ما تجسده بوضوح تام المادة الثامنة التي نصت صراحة على بطلان كل شرط يخالف أحكام النظام، وكل إبراء أو مصالحة عن الحقوق الناشئة للعامل أثناء سريان عقد العمل، إلا إذا كان ذلك الإبراء أو المصالحة أكثر فائدة للعامل المادة 8 من نظام العملhttps://laws.boe.gov.sa/BoeLaws/Laws/LawDetails/08381293-6388-48e2-8ad2-a9a700f2aa94/1.

إن هذا النص القانوني المحكم يحمل في طياته دلالات عميقة وأبعاداً حمائية واسعة يمكن تفصيلها على النحو التالي:

أولاً: بطلان الشروط المخالفة لنظام العمل:

تعتبر هذه الفقرة بمثابة حائط صد منيع يحول دون تضمين عقود العمل أو أي اتفاقيات ملحقة بها شروطاً تنتقص من الحقوق التي كفلها نظام العمل للعامل. وسواء كانت هذه الشروط تتعلق بالأجور، أو ساعات العمل، أو الإجازات، أو مكافأة نهاية الخدمة، أو غيرها من الحقوق المقررة نظاماً، فإنها تعتبر باطلة بطلاناً مطلقاً ولا يعتد بها قانوناً.

فعلى سبيل المثال، لا يجوز لصاحب العمل أن يتفق مع العامل على أجر يقل عن الحد الأدنى للأجور المحدد نظاماً، أو على حرمانه من حقه في الإجازة السنوية المنصوص عليها في النظام، أو على احتساب مكافأة نهاية الخدمة بطريقة تقلل من استحقاقه الفعلي. وفي مثل هذه الحالات، يكون الشرط المخالف باطلاً، وتطبق أحكام نظام العمل الملزمة التي تضمن الحد الأدنى من الحقوق للعامل.

إن هذا المبدأ يرسخ فكرة “الأثر الحمائي” لقانون العمل، حيث يمثل النظام الحد الأدنى من الحقوق التي لا يجوز النزول عنها أو الاتفاق على ما هو أقل منها. ويهدف ذلك إلى منع أصحاب العمل من استغلال حاجة العامل أو ضعفه التفاوضي لفرض شروط مجحفة عليه.

ثانياً: بطلان الإبراء والمصالحة عن الحقوق أثناء سريان عقد العمل:

تتصدى هذه الفقرة لمحاولة بعض أصحاب العمل الحصول على إبراء أو مصالحة من العامل عن حقوقه المستحقة أثناء فترة عمله، وذلك قبل نشوء أي نزاع فعلي. ففي ظل استمرار علاقة العمل، قد يشعر العامل بضغوط أو إكراه ضمني لقبول شروط قد لا تكون في صالحه، خوفاً من فقدان وظيفته أو التأثير على مستقبله المهني لدى نفس المنشأة.

لذلك، قرر النظام بطلان أي إبراء أو مصالحة يتم في هذه المرحلة، ما لم يكن هذا الإبراء أو المصالحة يحقق فائدة أكبر للعامل من الحقوق المقررة له نظاماً. وهذا الاستثناء يهدف إلى تشجيع التسويات الودية التي قد تنطوي على مزايا إضافية للعامل، ولكنه يمنع أي محاولة للتحايل على حقوقه الأساسية من خلال إبرام اتفاقيات صورية أو تحت ضغط.

فعلى سبيل المثال، إذا كان العامل مستحقاً لمكافأة نهاية خدمة قدرها عشرة آلاف ريال بموجب النظام، فإن أي إبراء أو مصالحة يوقعه أثناء سريان عقد العمل ويتضمن مبلغاً أقل من ذلك يعتبر باطلاً. أما إذا تضمنت المصالحة مبلغاً أكبر أو مزايا أخرى تعوض العامل بشكل أفضل، فإنها قد تكون صحيحة وقانونية.

إن هذا الحكم القانوني يعكس حرص المشرع على ضمان حصول العامل على كامل حقوقه عند انتهاء علاقة العمل، دون أي انتقاص أو تهاون، ويمنع أي استغلال محتمل لوضعه الوظيفي أثناء سريان العقد.

ثالثاً: الاستثناء الهام: ما هو أكثر فائدة للعامل:

لقد أدرك المشرع السعودي أن جمود النصوص القانونية قد لا يخدم مصلحة العامل في جميع الأحوال. فقد تنشأ ظروف معينة أو يتم اقتراح تسويات ودية تتضمن مزايا إضافية للعامل تفوق ما هو مقرر له نظاماً. من هنا، جاء الاستثناء الوارد في المادة الثامنة ليسمح بصحة الاتفاقيات أو الإبراءات أو المصالحات التي تكون “أكثر فائدة للعامل”.

هذا الاستثناء يضفي مرونة على تطبيق المادة الثامنة ويشجع على الحلول الودية التي قد تحقق للعامل مكاسب إضافية. ومع ذلك، فإن عبء إثبات أن الاتفاق أو الإبراء أو المصالحة هو أكثر فائدة للعامل يقع على عاتق الطرف الذي يتمسك بصحة هذا الاتفاق. ويتعين على الجهات القضائية عند الفصل في مثل هذه الحالات أن تتأكد من أن الفائدة الإضافية حقيقية وملموسة ولا تنطوي على أي تحايل أو إجحاف بحقوق العامل الأساسية.

التوازن بين حماية العامل وتشجيع الاستثمار:

إن الحماية التي يوفرها نظام العمل السعودي للعامل من خلال المادة الثامنة لا تعني إطلاقاً إغفال حقوق أصحاب العمل أو تقويض بيئة الاستثمار. فالنظام يسعى إلى تحقيق توازن دقيق بين حماية الطرف الضعيف وتشجيع النمو الاقتصادي وجذب الاستثمارات.

إن توفير بيئة عمل عادلة ومستقرة تحترم حقوق العاملين يساهم في زيادة الإنتاجية وتحسين جودة العمل وتعزيز الولاء الوظيفي. كما أن وجود نظام قانوني واضح وشفاف يحمي حقوق جميع الأطراف يساهم في بناء الثقة في سوق العمل وجذب الاستثمارات المحلية والأجنبية.

إن المادة الثامنة، بما تضمنته من أحكام حمائية للعامل، لا تشكل عائقاً أمام الاستثمار بل هي جزء أساسي من بناء بيئة عمل مستدامة ومزدهرة تعود بالنفع على جميع الأطراف. فالعامل الذي يشعر بالأمان والاستقرار الوظيفي يكون أكثر إنتاجية وولاءً، مما ينعكس إيجاباً على أداء المنشأة ونجاحها.

دور الجهات الرقابية والقضائية في تطبيق المادة الثامنة:

إن فعالية المادة الثامنة في حماية حقوق العاملين تعتمد بشكل كبير على الدور الذي تقوم به الجهات الرقابية والقضائية في تطبيق أحكام نظام العمل. ويتعين على وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية والجهات التابعة لها القيام بدور فعال في مراقبة تطبيق نظام العمل والتأكد من التزام أصحاب العمل بأحكامه، بما في ذلك المادة الثامنة.

كما يقع على عاتق القضاء العمالي مسؤولية الفصل في المنازعات العمالية وفقاً لأحكام نظام العمل، وتطبيق المادة الثامنة بحذافيرها لضمان عدم الإخلال بحقوق العاملين. ويتعين على القضاة إعمال مبدأ “الأثر الحمائي” لقانون العمل عند تفسير النصوص القانونية، والتحقق بدقة من صحة أي شروط أو إبراءات أو مصالحات يتم التمسك بها في مواجهة العامل.

خلاصة:

إن المادة الثامنة من نظام العمل السعودي تمثل حجر الزاوية في منظومة الحماية القانونية التي أولاها المشرع للعامل باعتباره الطرف الأضعف في العلاقة التعاقدية. من خلال إبطالها للشروط المخالفة للنظام والإبراءات والمصالحات المجحفة بحقوق العامل أثناء سريان عقد العمل، إلا إذا كانت أكثر فائدة له، ترسخ هذه المادة مبادئ العدالة والتوازن في سوق العمل.

إن هذا النص القانوني يعكس حرص المملكة العربية السعودية على توفير بيئة عمل عادلة ومستقرة تحترم حقوق العاملين وتشجع على النمو الاقتصادي المستدام. ويتطلب تحقيق الأهداف المنشودة من هذه المادة تضافر جهود الجهات التشريعية والتنفيذية والقضائية، بالإضافة إلى وعي أصحاب العمل والعاملين بحقوقهم وواجباتهم النظامية.

إن حماية حقوق العامل ليست مجرد التزام قانوني، بل هي ضرورة اجتماعية واقتصادية تساهم في بناء مجتمع مزدهر ومستقر ينعم فيه الجميع بالعدالة والإنصاف. وستظل المادة الثامنة من نظام العمل السعودي شاهداً على هذا الاهتمام ومثالاً رائداً على كيفية تدخل التشريع لحماية الطرف الأضعف وتحقيق التوازن في العلاقات التعاقدية.

رابط /https://law-yuosif.com/لغرامات-في-العقود-الحكومية-دروس-وعبر-ل/