
تعد مؤسسة الحضانة في القانون العماني حجر الزاوية في منظومة حماية الطفل ورعايته، مستمدة جذورها العميقة من مبادئ الشريعة الإسلامية السامية التي أولت الطفولة اهتمامًا بالغًا. يهدف القانون العماني من خلال تنظيم أحكام الحضانة إلى توفير بيئة حاضنة وسليمة تضمن النمو المتكامل للطفل على كافة الأصعدة الجسدية والعقلية والنفسية والاجتماعية. وقد تجسدت هذه الأهداف في *قانون الأحوال الشخصية الصادر بالمرسوم السلطاني رقم 32/97 وتعديلاته، الذي أفرد *الباب الرابع منه لتفصيل أحكام النفقات والأجور والحضانة والرؤية، مؤكدًا على أن المصلحة الفضلى للطفل هي البوصلة التي توجه كافة القرارات المتعلقة به.
التأصيل الشرعي والقانوني لمفهوم الحضانة:
تستند فلسفة الحضانة في القانون العماني إلى مبادئ الشريعة الإسلامية التي تعتبر رعاية الصغير وحفظه وتنشئته واجبًا على المكلفين به. وقد وردت العديد من النصوص الشرعية التي تحث على الإحسان إلى الأطفال وتربيتهم تربية قويمة. وعلى الصعيد القانوني، يتبنى القانون العماني هذا النهج، حيث يُعرّف الحضانة بأنها مسؤولية شاملة تتضمن حفظ الولد من كل ما يضره، وتدبير شؤونه الحياتية من مأكل وملبس ومسكن وعلاج، بالإضافة إلى تربيته وتعليمه وتنمية قدراته العقلية والخلقية والنفسية. إنها ليست مجرد إقامة الطفل مع شخص ما، بل هي عملية تربوية متكاملة تهدف إلى إعداده ليكون فردًا صالحًا وفعالًا في المجتمع.
ترتيب مستحقي الحضانة: موازنة بين حق الأم والمصلحة الفضلى للطفل:
لقد وضع القانون العماني ترتيبًا دقيقًا للأشخاص الذين لهم الحق في حضانة الصغير، مع إعطاء الأولوية للأم في المراحل الأولى من عمر الطفل لما جُبلت عليه من شفقة وحنان وقدرة على تلبية احتياجاته الأساسية. وقد نصت المادة (130) من قانون الأحوال الشخصية على هذا الترتيب التفصيلي، بدءًا بالأم، ثم الأب، ثم الجدات للأم والأب، وصولًا إلى الأخوات والعمات والخالات وبنات الأخوات وبني الإخوة، مع تقديم الأصلح منهم.https://qanoon.om/p/1997/rd1997032/
ومع ذلك، فإن هذا الترتيب ليس جامدًا، بل يخضع للمعايير والشروط التي حددها القانون لضمان أهلية الحاضن وقدرته على الاضطلاع بهذه المسؤولية الجسيمة. وتشمل هذه الشروط البلوغ والعقل والأمانة والقدرة على التربية والصيانة والرعاية، والسلامة من الأمراض المعدية الخطيرة، وعدم الحكم على الحاضن في جرائم مخلة بالشرف أو الأمانة.
الأهم من ذلك، تؤكد الفقرة الأخيرة من المادة (130) على أن المصلحة الفضلى للمحضون هي المعيار الأسمى الذي يوجه قرار القاضي في تحديد الحاضن. فإذا تبين للمحكمة أن مصلحة الطفل تقتضي خلاف الترتيب المنصوص عليه، فلها الحق في الحكم بذلك. وهذا يعكس حرص القانون على تغليب مصلحة الطفل على أي اعتبارات أخرى، بما في ذلك حق الأبوين أو الأقارب في الحضانة.
شروط استمرار الحضانة وأسباب سقوطها:
لا يكفي استحقاق الحضانة في مرحلة معينة، بل يجب أن تستمر الظروف التي أدت إلى هذا الاستحقاق. وقد حدد القانون العماني بعض الحالات التي قد تؤدي إلى سقوط حق الحضانة عن الحاضن وانتقالها إلى من يليه في الترتيب.
بالنسبة للأم الحاضنة، تنص المادة (126)-(127) على ثلاث حالات رئيسية لسقوط حضانتها:https://qanoon.om/p/1997/rd1997032/
- الزواج بغير محرم للمحضون: يرى القانون أن زواج الأم بغير محرم للطفل قد يؤثر سلبًا على مصلحة الطفل واستقراره النفسي والعاطفي، خاصة في المراحل العمرية المبكرة التي يكون فيها الطفل أكثر تعلقًا بأمه وحساسية للتغيرات في محيطه الأسري. ومع ذلك، فقد منح القانون المحكمة سلطة تقديرية للنظر في مصلحة المحضون في هذه الحالة، فإذا تبين لها أن بقاء الطفل مع أمه المتزوجة هو الأفضل لمصلحته، فلها أن تحكم ببقائها حاضنة.
- عدم الأهلية للحضانة: إذا ثبت للمحكمة أن الأم الحاضنة فقدت أهليتها لرعاية الطفل بسبب مرض عقلي أو جسدي يعيق قدرتها على القيام بواجبات الحضانة، أو بسبب سلوكيات غير قويمة تعرض سلامة الطفل للخطر، فإن حقها في الحضانة يسقط.
- إهمال المحضون أو الإساءة إليه: يعتبر إهمال الأم الحاضنة لاحتياجات الطفل الأساسية أو تعريضها للخطر أو إساءة معاملتها سببًا موجبًا لإسقاط حضانتها، حيث أن الهدف الأساسي من الحضانة هو توفير الرعاية والحماية للطفل.
وبالمثل، قد تسقط حضانة الأب أو أي حاضن آخر إذا تخلف أحد الشروط المنصوص عليها في المادة (126)، أو إذا طرأت ظروف تجعل استمرار حضانته مضرًا بمصلحة الطفل.
حق الرؤية والاستضافة: تعزيز العلاقة بين المحضون والطرف غير الحاضن:
إدراكًا لأهمية استمرار العلاقة بين الطفل والطرف غير الحاضن من الأبوين والأقارب، فقد كفل القانون العماني هذا الحق بموجب المادة (137) من قانون الأحوال الشخصية. تنص هذه المادة على حق أحد الأبوين أو الأجداد أو الأخوة أو الأخوات أو الأعمام أو العمات أو الأخوال أو الخالات في رؤية المحضون واستزارته واستصحابه مرة في الأسبوع وفي الأعياد والعطلات الرسمية https://qanoon.om/p/1997/rd1997032/.
وقد منح القانون المحكمة سلطة تنظيم كيفية ممارسة هذا الحق ومكانه وزمانه بما يراعي مصلحة الطفل ويضمن راحته واستقراره النفسي. وتهدف هذه المادة إلى تحقيق التوازن بين حق الحاضن في تربية الطفل ورعايته، وحق الطرف الآخر من الأقارب في التواصل معه والاطمئنان عليه، وتجنب قطع الروابط الأسرية التي قد تؤثر سلبًا على نفسية الطفل ونموه الاجتماعي.
الإجراءات القانونية المتعلقة بدعاوى الحضانة:
تخضع دعاوى الحضانة في القانون العماني للإجراءات المتبعة في المحاكم الشرعية. يحق لأي من الأبوين أو الأقارب المستحقين للحضانة التقدم بدعوى للمطالبة بها أو بنقلها أو بإسقاطها أو بتنظيم حق الرؤية. ويتعين على المدعي تقديم الأدلة والمستندات التي تدعم طلبه، بما في ذلك شهادات الميلاد والزواج والطلاق، والتقارير الطبية والاجتماعية إن وجدت، وأي مستندات أخرى تثبت توافر الشروط أو تخلفها لدى الطرف الآخر.
وللمحكمة سلطة الاستعانة بالخبراء الاجتماعيين والنفسيين لتقييم الوضع الأسري وتقدير مصلحة الطفل وتقديم التوصيات المناسبة. كما قد تقوم المحكمة بالاستماع إلى أقوال الطفل إذا كان مميزًا وقادرًا على التعبير عن رأيه، مع الأخذ في الاعتبار نضجه العقلي والعاطفي.
المستجدات والتحديات في قضايا الحضانة:
يشهد المجتمع العماني تغيرات اجتماعية واقتصادية متسارعة، مما يطرح تحديات جديدة في قضايا الحضانة. من بين هذه التحديات ظهور حالات الزواج المختلط، وتزايد حالات الطلاق، وتغير الأدوار التقليدية للأبوين. تتطلب هذه المستجدات من القضاء العماني تطوير آليات جديدة لتقييم مصلحة الطفل في ظل هذه الظروف المتغيرة، مع الأخذ في الاعتبار أفضل الممارسات الدولية في مجال حماية الطفل.
كما تبرز أهمية تفعيل دور الوساطة والتوفيق الأسري في قضايا الحضانة، حيث يمكن أن تساعد هذه الآليات في التوصل إلى حلول ودية تراعي مصلحة الطفل وتحافظ على العلاقات الأسرية قدر الإمكان، بدلًا من اللجوء إلى التقاضي الذي قد يكون له آثار سلبية على نفسية الطفل.
خلاصة وتأكيد على المصلحة الفضلى للطفل:
تظل الحضانة في القانون العماني مسؤولية عظيمة تقع على عاتق الحاضن، وهدفها الأسمى هو تحقيق المصلحة الفضلى للطفل وضمان نشأته في بيئة سليمة وآمنة ومستقرة. وقد وضع القانون مجموعة من القواعد والشروط والإجراءات التي تهدف إلى تحقيق هذا الهدف، مع التأكيد على أن مصلحة الطفل هي المعيار الحاسم في جميع القرارات المتعلقة به. إن التوازن بين حقوق الأبوين ومصلحة الطفل هو جوهر فلسفة الحضانة في القانون العماني، وهو ما يسعى القضاء العماني إلى تحقيقه في كل قضية على حدة، مع الأخذ في الاعتبار الظروف الخاصة بكل أسرة وطفل. إن حماية الطفولة ورعايتها هي مسؤولية مجتمعية مشتركة، والقانون العماني يمثل إطارًا قانونيًا متينًا لتحقيق هذه الغاية النبيلة.
رالط مهم حول التزامات الزوج في النفقة/ https://law-yuosif.com/التزامات-الزوج-القانونية/
Pingback: حقوق النفقة للزوجة في قانون الأحوال الشخصية العماني: تحليل معمق وتفصيلي