المادة المحورية: تحليل معمق للمادة (127) من نظام الأحوال الشخصية
يُمثل نظام الأحوال الشخصية السعودي، الصادر حديثاً، نقلة تشريعية نوعية نحو إرساء قواعد قانونية واضحة وموحدة للقضايا الأسرية. وفي قلب هذه التشريعات تأتي أحكام الحضانة، التي تُعتبر العمود الفقري لضمان مستقبل الأطفال بعد انفصال الوالدين. وتُعد المادة (127) بعد المائة من هذا النظام هي المادة المحورية التي وضعت الأساس لأولوية الحضانة وترتيب الأحق بها، مع تأكيدها المطلق على مبدأ مصلحة المحضون.
إن فهم هذه المادة ليس مجرد إلمام بنص قانوني، بل هو استيعاب للفلسفة التشريعية الحديثة في المملكة، التي تضع رعاية الوِفاق و حق الصغير في مقدمة الأولويات.
الفصل الأول: الحضانة قبل الانفصال – واجب الوالدين المشترك
تبدأ المادة (127) بترسيخ مبدأ أساسي يتمثل في المسؤولية المشتركة:
“الحضانة من واجبات الوالدين معاً ما دامت الزوجية قائمة بينهما…”
هذا النص يحدد الإطار القانوني للعلاقة الزوجية القائمة، مؤكداً أن الحضانة ليست حقاً قابلاً للمطالبة به أو النزاع عليه ما دام الوفاق قائماً، بل هي واجب ومسؤولية تضامنية تقع على عاتق الأب والأم على حد سواء.
ويُقصد بالحضانة، كما عرفها النظام (في المادة 124)، أنها: “حفظ من لا يستقل بنفسه عما يضره، وتربيته والقيام على مصالحه بما في ذلك التعليم والعلاج”. وبالتالي، فإن الواجب المشترك يشمل كل جوانب الرعاية: النفسية، الصحية، التعليمية، والاجتماعية.
الفصل الثاني: المادة (127) وتحديد ترتيب الأحقية بعد الافتراق
الجزء الثاني من المادة (127) يضع الترتيب النظامي لمن له الأحقية في الحضانة في حال وقوع الانفصال أو الطلاق:
“…فإن افترقا فتكون الحضانة للأم، ثم الأحق بها على الترتيب الآتي: الأب، ثم أم الأم، ثم أم الأب، ثم تقرر المحكمة ما ترى فيه مصلحة المحضون…”
هذا الترتيب يُمثل نقطة تحول هامة في التشريع السعودي، حيث تم تدوين وتأكيد الأحقية بالترتيب التالي:
1. الأم (المرتبة الأولى)
النظام وضع الأم في المرتبة الأولى بشكل قاطع، إدراكاً لأهميتها في سنوات الطفل الأولى وارتباطه العاطفي والجسدي بها. الأحقية للأم هنا هي الأصل، ولا يمكن نقل الحضانة عنها إلا بوجود مسوغ نظامي قوي يقتضي خلاف ذلك، أو بثبوت عدم توافر شروط الحضانة فيها (كالصلاحية والأمانة).
2. الأب (المرتبة الثانية)
يأتي الأب في المرتبة الثانية مباشرة بعد الأم. وهذا الترتيب القانوني يعكس دوره الأساسي والمحوري كولي ومنفق وراعٍ. وبشكل عملي، تنتقل إليه الحضانة في حال سقوطها نظاماً عن الأم (مثل زواجها من أجنبي أو إخلالها بشروط الحضانة العامة).
3. أم الأم (الجدة من طرف الأم) (المرتبة الثالثة)
تأتي الجدة من طرف الأم (والدة الأم) في المرتبة الثالثة. هذا الترتيب يستند إلى غالباً على عنصر الشفقة والقرابة المباشرة، ويُفضل إسناد الحضانة إليها في حال سقوطها عن الوالدين معاً، خاصة في السن الصغير الذي يحتاج إلى رعاية أنثوية مباشرة.
4. أم الأب (الجدة من طرف الأب) (المرتبة الرابعة)
تحتل الجدة من طرف الأب المرتبة الرابعة. وإذا سقطت الحضانة عن جميع المذكورين أعلاه، تستمر الأولوية للمحارم من النساء على التوالي، ثم العصبة حسب ترتيب الإرث.
الفصل الثالث: الثابت الأسمى – مصلحة المحضون
العبارة الأكثر قوة وتأثيراً في المادة (127) هي الخاتمة:
“…ثم تقرر المحكمة ما ترى فيه مصلحة المحضون…”
هذه العبارة ليست مجرد إضافة، بل هي القاعدة الذهبية والمبدأ الأسمى الذي يحكم جميع قرارات الحضانة في القضاء السعودي. إنها تمنح القاضي سلطة تقديرية واسعة ليتجاوز الترتيب المنصوص عليه (الأم ثم الأب… إلخ) إذا ثبت أن مصلحة الطفل تقتضي خلاف ذلك.
أبعاد مبدأ “مصلحة المحضون”:
-
البعد النفسي والاجتماعي: يشمل استقرار الطفل، بيئته التعليمية، قربه من إخوته، وقدرة الحاضن على توفير الرعاية العاطفية والنفسية.
-
البعد الصحي: قدرة الحاضن على تلبية الاحتياجات الصحية للمحضون وسلامته من الأمراض المعدية (شرط أساسي في الحاضن بموجب النظام).
-
البعد المادي: توفير المسكن الملائم والبيئة المستقرة، مع العلم بأن النفقة تظل واجبة على الأب بغض النظر عن الحاضن.
في التطبيق العملي، يميل القضاء إلى عدم إسقاط حضانة الأم للأطفال الصغار (الأقل من سبع سنوات) حتى لو تزوجت، إذا لم يثبت وجود ضرر على الطفل، لأن المصلحة في هذا السن تقتضي بقاء الطفل في حضن والدته.
الفصل الرابع: الحالات الاستثنائية والارتباط بالمواد الأخرى
المادة (127) لا تعمل بمعزل عن باقي مواد النظام. فهي ترتبط بشكل وثيق بالمادة (126) والمادة (128) التي تحدد شروط الحاضن وحالات سقوط الحضانة:
1. شروط الحاضن (المادة 126 وما يماثلها):
يجب أن تتوفر في كل من يطالب بالحضانة شروط عامة، أبرزها:
-
كمال الأهلية (البلوغ والعقل).
-
القدرة على تربية المحضون وصيانته ورعايته.
-
السلامة من الأمراض المعدية الخطيرة.
-
بالنسبة للمرأة الحاضنة: ألا تكون متزوجة برجل أجنبي عن المحضون، ما لم تقتضِ مصلحة المحضون خلاف ذلك.
2. حالات سقوط الحضانة (المادة 128):
-
تخلف أي من الشروط الواجب توافرها في الحاضن.
-
انتقال الحاضن إلى مكان بقصد الإقامة تفوت به مصلحة المحضون (ما يعرف بـ “النقلة”).
-
سكون مستحق الحضانة عن المطالبة بها مدة تزيد على سنة من غير عذر (ما لم تقتضِ مصلحة المحضون خلاف ذلك).
3. حق المحضون في الاختيار (المادة 135):
عند إتمام المحضون سن الخامسة عشرة (15 عاماً)، يمنحه النظام حق الاختيار في الإقامة لدى أحد والديه، ما لم تقتضِ مصلحة المحضون خلاف ذلك. وتنتهي الحضانة بالكامل عند بلوغ سن الثامنة عشرة (18 عاماً) إلا في حالات العجز أو المرض المقعد.
الفصل الخامس: الأثر الاجتماعي والتشريعي للمادة 127
إن المادة (127) بما حملته من ترتيب واضح للأحقية، وخاصة وضع الأم في المقام الأول، قد عززت من الاستقرار النفسي والاجتماعي للطفل، وقللت من النزاعات القضائية حول تحديد الحاضن الأصلي.
لقد وضعت هذه المادة الأساس لـ “مسار الرعاية الآمنة” للأطفال، ووجهت الرسالة الواضحة بأن حقوق الوالدين تأتي في المرتبة الثانية بعد ضمان سلامة وسعادة حق الصغير، وهو ما يتفق مع التوجهات القانونية الدولية الحديثة التي تجعل مصلحة الطفل هي المعيار الحاكم في القضاء الأسري.
في الختام، تبقى المادة (127) هي النبراس الذي يضيء طريق الفصل في قضايا الحضانة، حيث يظل تقدير المحكمة لمصلحة المحضون هو الفيصل النهائي والضامن لعدالة وشمولية التطبيق القانوني.
“للاطلاع على شروحات وتفاصيل نظام الحضانة السعودي، تفضل بالدخول إلى مقالاتنا عبر الرابط في الأعلى.”
⚖️ الحضانة في النظام السعودي: تحليل المادتين (124) و (125) وشروط الحاضن
الحضانة حق قابل للاسترداد: تحليل المادة (130) من نظام الأحوال الشخصية السعودي
سقوط حضانة الأم: المادة 128 من نظام الأحوال الشخصية السعودي
“للتأكد من الأحكام مباشرة من المصدر: يُرجى مراجعة نظام الأحوال الشخصية السعودي كاملاً عبر الرابط الخارجي الموثوق.”