المحامي يوسف الخضوري | استشارات قانونية

الفعل الضار في القانون العماني: دراسة تحليلية معمقة مع التركيز على المسؤولية والتعويض

مقدمة:

يظل الفعل الضار حجر الزاوية في بناء هيكل القانون المدني، فهو الشريان الذي ينظم التفاعلات الإنسانية ويحدد التبعات القانونية المترتبة على إلحاق الأذى بالآخرين. تتجلى أهمية هذه المسؤولية في قدرتها على تحقيق التوازن بين حرية الأفراد في ممارسة أنشطتهم وحق المجتمع في صون سلامته وأمنه، فضلاً عن ضمان جبر الأضرار التي تلحق بالأفراد نتيجة لسلوكيات غير مشروعة. في هذه الدراسة التحليلية المعمقة، سنتناول مفهوم الفعل الضار في القانون العماني، مستندين بشكل أساسي إلى المواد (١٧٦) إلى (١٧٩) من الفرع الأول للأحكام العامة في هذا القانون. سنسعى إلى تفكيك المفاهيم الأساسية التي تنطوي عليها هذه النصوص، مثل الإضرار بالغير كأساس للمسؤولية، وأنواع *المسؤولية التقصيرية، وآليات *التعويض عن الأضرار، والتفريق بين الضرر المباشر و *الضرر بالتسبب، بالإضافة إلى استعراض الظروف التي قد تؤدي إلى إعفاء المسؤولية كوجود *السبب الأجنبي أو ممارسة *الدفاع الشرعي، وأخيرًا تحديد نطاق *مسؤولية المتبوع عن فعل التابع وخصوصية مسؤولية الموظف العام.

المادة (١٧٦): الركيزة الأساسية للمسؤولية عن الفعل الضار وتجلياتها

تضع المادة (١٧٦) حجر الأساس لمفهوم المسؤولية عن الفعل الضار في القانون العماني، مؤكدة على مبدأ المسؤولية المطلقة تجاه الغير. تنص الفقرة الأولى بوضوح على أن “كل إضرار بالغير يلزم فاعله ولو كان غير مميز بالتعويض”. هذا النص يحمل دلالات عميقة، فهو يوسع دائرة المسؤولية لتشمل حتى الأشخاص الذين لم يبلغوا سن الرشد القانوني أو فاقدي الأهلية العقلية. تعكس هذه الشمولية حرص المشرع العماني على توفير حماية قصوى لحقوق الأفراد الذين لحقت بهم أضرار، دون النظر إلى القدرة الإدراكية أو القانونية للمتسبب في الضرر. يترتب على ذلك أن الصغير غير المميز أو المجنون قد يُلزم بالتعويض عن فعله الضار من ماله الخاص أو من مال وليه أو وصيه، وفقًا لما تحدده القواعد القانونية الخاصة بأهلية التصرف والمسؤولية الناشئة عنها.

تتعمق الفقرة الثانية من المادة (١٧٦) في تحديد آليات الإضرار، حيث تميز بين صورتين أساسيتين: الإضرار بالمباشرة و *الإضرار بالتسبب. *الإضرار بالمباشرة يعني أن يكون الفعل الضار هو السبب المباشر والوحيد في إحداث الضرر. في هذه الحالة، تقوم المسؤولية الموجبة للتعويض بمجرد تحقق الضرر، دون الحاجة إلى إثبات وجود خطأ أو تعدٍ من جانب الفاعل. يعتبر هذا النوع من المسؤولية قائمًا على فكرة تحمل المخاطر، حيث يتحمل الشخص تبعات أفعاله المباشرة التي أدت إلى إلحاق الضرر بالآخرين.

في المقابل، يعرف الإضرار بالتسبب بأن يكون فعل الشخص ليس هو السبب المباشر في وقوع الضرر، ولكنه ساهم أو أدى بطريقة ما إلى حدوثه. في هذه الحالة، يشترط القانون لتحقق المسؤولية الموجبة للتعويض إثبات وجود التعدي أو الخطأ من جانب المتسبب. التعدي يشير إلى مخالفة قانونية أو تجاوز لحدود الحق، بينما الخطأ يعني الإهمال أو عدم اتخاذ الحيطة والحذر اللازمين في سلوك الشخص. هذا التمييز يعكس منطقًا قانونيًا دقيقًا، حيث يرى أن الفعل المباشر الذي ينتج عنه الضرر يستوجب مسؤولية تلقائية نظرًا لقوة العلاقة السببية، بينما الفعل غير المباشر يتطلب إثبات وجود تقصير من الفاعل لربط المسؤولية به. على سبيل المثال، إذا قام شخص بإلقاء حجر على سيارة بشكل مباشر، فهذا يعتبر إضرارًا بالمباشرة ويستوجب التعويض بغض النظر عن نيته. أما إذا قام شخص بحفر حفرة في طريق عام دون وضع علامات تحذيرية وسقط فيها عابر سبيل، فهذا يعتبر إضرارًا بالتسبب ويتطلب إثبات خطأ الشخص الذي حفر الحفرة (الإهمال في وضع العلامات التحذيرية).

المادة (١٧٧): نطاق الإعفاء من المسؤولية في ظل الظروف القاهرة

تستثني المادة (١٧٧) حالات معينة من نطاق المسؤولية عن *الفعل الضار، وذلك تحقيقًا لمبدأ العدالة ومنطق الأمور. تقرر هذه المادة إعفاء الشخص من واجب التعويض إذا استطاع إثبات أن الضرر قد نشأ عن **سبب أجنبي لا يد له فيه. تشدد المادة على أن هذا السبب يجب أن يكون خارجًا عن إرادة وسيطرة المسؤول. تقدم المادة أمثلة توضيحية لهذه الأسباب الأجنبية، مثل *الآفة السماوية التي تشمل الكوارث الطبيعية كالزلازل والفيضانات والعواصف الشديدة التي لا يمكن توقعها أو دفعها. كما تشمل الحادث الفجائي وهو حدث غير متوقع وغير ممكن دفعه، مثل انهيار مفاجئ لمبنى أو اصطدام غير متوقع لمركبتين. وتضيف المادة القوة القاهرة التي تشير إلى الظروف الخارجية القاهرة التي تجعل تنفيذ الالتزام أو تجنب الضرر مستحيلاً، مثل الحروب أو الثورات أو القرارات الحكومية الملزمة. بالإضافة إلى ذلك، تعتبر المادة فعل الغير سببًا أجنبيًا إذا كان فعل هذا الغير هو السبب المباشر والفعال في وقوع الضرر، ولم يكن للمسؤول أي دور في هذا الفعل أو في توقع نتائجه. وأخيرًا، يشمل فعل المضرور نفسه كسبب أجنبي إذا كان خطأ أو إهمال المضرور هو السبب الوحيد أو المساهم الفعال في وقوع الضرر.

يهدف هذا الاستثناء إلى عدم تحميل الشخص مسؤولية ضرر لم يكن له فيه أي تدخل أو لم يكن في مقدوره منعه أو توقعه. ومع ذلك، تؤكد المادة على أن هذا الإعفاء مشروط بعدم وجود نص قانوني خاص أو اتفاق بين الأطراف يقضي بخلاف ذلك. هذا يعني أن هناك حالات قد ينص فيها القانون أو يتفق فيها الأطراف على تحمل المسؤولية حتى في وجود سبب أجنبي، كما هو الحال في بعض عقود التأمين أو في حالات المسؤولية الموضوعية المنصوص عليها قانونًا.

المادة (١٧٨): حدود المسؤولية في سياق الدفاع المشروع عن الحقوق

تتناول المادة (١٧٨) وضعًا خاصًا يتعلق بحق الفرد في *الدفاع الشرعي. تقرر هذه المادة أن الشخص الذي يحدث ضررًا بالمعتدي أو بماله أثناء تواجده في حالة *دفاع شرعي عن نفسه أو عرضه أو ماله، أو عن نفس الغير أو عرضه أو ماله، لا يكون مسؤولًا عن هذا الضرر. يرتكز هذا الإعفاء على مبدأ أصيل في القانون يقر بحق الفرد في حماية مصالحه وحقوقه المشروعة ورد الاعتداء الواقع عليها.

ومع ذلك، تضع المادة قيدًا هامًا على هذا الحق، وهو ألا يتجاوز الفعل الدفاعي قدر الضرورة لدفع الاعتداء. فإذا تجاوز الفعل حدود ما هو لازم لدرء الخطر، وأحدث ضررًا أكبر مما كان ضروريًا، فإنه يصبح ملزمًا بالتعويض عن الجزء الزائد من الضرر. هذا التقييد يهدف إلى تحقيق التوازن بين حق الدفاع المشروع وبين ضرورة عدم الإفراط في استخدام القوة أو إلحاق ضرر غير متناسب بالاعتداء. تقدير ما إذا كان الفعل الدفاعي قد تجاوز قدر الضرورة يخضع لتقدير المحكمة، التي تأخذ في الاعتبار طبيعة الاعتداء ووسائل الدفاع المتاحة وظروف الواقعة. على سبيل المثال، إذا حاول شخص سرقة محفظة آخر واستخدم الضحية عصا لضربه دفاعًا عن ماله، فإن هذا يعتبر دفاعًا شرعيًا ما لم يتجاوز الضرب الحد اللازم لردع السارق. أما إذا استمر الضحية في ضرب السارق بعد سقوطه أرضًا وعجزه عن المقاومة، فقد يعتبر ذلك تجاوزًا لحدود الضرورة ويستوجب التعويض عن الأضرار اللاحقة.

المادة (١٧٩): تحديد المسؤول عن الفعل الضار في العلاقات التعاقدية والوظيفية

توضح المادة (١٧٩) القواعد الأساسية لإسناد الفعل الضار وتحديد المسؤولية عنه في سياقات مختلفة. تقرر الفقرة الأولى مبدأً عامًا مفاده أن “*يضاف الفعل إلى الفاعل لا الآمر، ما لم يكن الفاعل مجبرا”. يؤكد هذا المبدأ على **شخصية المسؤولية، حيث يتحمل الشخص الذي ارتكب الفعل الضار تبعاته القانونية. إلا أن المادة تستثني حالة **الإجبار، حيث ينتقل عبء المسؤولية إلى الآمر إذا كان الفاعل مجبرًا على ارتكاب الفعل الضار. وتضيف المادة توضيحًا هامًا لمفهوم الإجبار المعتبر في التصرفات الفعلية، حيث تقصر نطاقه على “الإكراه الملجئ وحده”. *الإكراه الملجئ هو الإكراه المادي أو المعنوي الشديد الذي يسلب الفاعل إرادته واختياره بشكل كامل، بحيث يصبح مجرد أداة في يد الآمر. أما الإكراه غير الملجئ (الناقص للإرادة) فقد يؤثر على مسؤولية الفاعل ولكنه لا يعفي الآمر بشكل كامل.

تتناول الفقرة الثانية من المادة (١٧٩) حالة خاصة تتعلق بمسؤولية الموظف العام عن الأضرار التي يحدثها للغير أثناء قيامه بعمله. تقرر هذه الفقرة أن الموظف العام لا يكون مسؤولًا شخصيًا عن فعله الضار إذا قام به “تنفيذا لأمر صدر إليه من رئيسه متى كانت طاعة هذا الأمر واجبة عليه، أو كان يعتقد أنها واجبة وأقام الدليل على اعتقاده بمشروعية العمل الذي وقع منه وكان اعتقاده مبنيا على أسباب معقولة وأنه راعى في عمله جانب الحيطة والحذر“. في هذه الحالات، تتحمل الجهة التي يتبعها الموظف (الجهة الإدارية) مسؤولية التعويض عن الضرر. يهدف هذا الحكم إلى حماية الموظف العام الذي ينفذ أوامر رؤسائه بحسن نية وفي إطار واجباته الوظيفية، وتشجيعهم على أداء مهامهم دون خوف من تحمل مسؤولية شخصية عن الأضرار التي قد تنجم عن تنفيذ تلك الأوامر. ومع ذلك، يشترط القانون توافر عدة شروط لإعفاء الموظف من المسؤولية الشخصية، بما في ذلك وجوب طاعة الأمر أو الاعتقاد بوجوبه بناءً على أسباب معقولة، بالإضافة إلى مراعاة جانب الحيطة والحذر أثناء تنفيذ العمل. أما إذا كان الأمر غير مشروع بشكل واضح أو إذا كان الموظف يعلم بعدم مشروعيته أو ارتكب خطأ شخصيًا جسيمًا أثناء التنفيذ، فقد تترتب عليه مسؤولية شخصية بالإضافة إلى مسؤولية الجهة الإدارية.

الخلاصة والآفاق المستقبلية:

تجسد المواد (١٧٦) إلى (١٧٩) من القانون المدني العماني إطارًا قانونيًا شاملاً ومنظمًا للتعامل مع قضايا الفعل الضار و التعويض عن الأضرار الناجمة عنه. لقد استعرضنا في هذه الدراسة التحليلية المعمقة المفاهيم الأساسية التي تناولتها هذه المواد، بدءًا من تعريف الإضرار بالغير كأساس للمسؤولية، مرورًا بالتمييز الدقيق بين الضرر المباشر و الضرر بالتسبب وشروط تحقق *المسؤولية التقصيرية، وصولًا إلى استعراض حالات الإعفاء من المسؤولية في ظل وجود *السبب الأجنبي أو ممارسة *الدفاع الشرعي، وتحديد قواعد إسناد المسؤولية في العلاقات المختلفة، بما في ذلك خصوصية *مسؤولية الموظف العام.

إن فهم هذه النصوص القانونية وتطبيقها بشكل سليم يمثل أهمية قصوى في تحقيق العدالة وحماية حقوق الأفراد والمجتمع. ومع التطورات المستمرة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية، قد تظهر تحديات جديدة في تطبيق هذه الأحكام على بعض الأفعال المستحدثة وأنواع الأضرار الناشئة عنها. لذلك، قد يكون من الضروري إجراء المزيد من الدراسات والتحليلات القانونية المعمقة لهذه القضايا المستجدة، واقتراح التعديلات التشريعية اللازمة لمواكبة هذه التطورات وضمان فعالية نظام المسؤولية المدنية في القانون العماني.

✍️ بقلم المحامي يوسف الخضوري

تقادم دعوى التعويض في القانون العماني – المادة 185 بوضوح

تقدير التعويض عن الإصابة في سلطنة عمان – بين مبادئ المحكمة العليا والفقه الإسلامي

التعويض عن الفعل الضار في القانون المدني العماني: دراسة تحليلية في ضوء أحكام القضاء

استشارات قانونية | محامون متخصصون | خدمات قانونية موثوقة أونلاين

https://linktr.ee/LawyerYusuf

https://qanoon.om/p/2013/rd2013029/

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *