المحامي يوسف الخضوري | استشارات قانونية

"تحكيم عربي للمغتربين في بريطانيا – بديل قانوني للمحاكم التقليدية"

يُعد التحكيم أحد أبرز وأكثر الطرق فعالية لحل النزاعات التجارية والدولية في المشهد القانوني البريطاني. بعيدًا عن تعقيدات التقاضي التقليدي وبطئه في بعض الأحيان، يوفر التحكيم إطارًا مرنًا وفعالًا يعتمد على خبرة المحكمين المتخصصين وسرية الإجراءات، مما يجعله خيارًا مفضلاً للعديد من الأطراف. يتمتع القانون الإنجليزي بسمعة عالمية كقانون داعم للتحكيم، وذلك بفضل الإطار التشريعي القوي الذي يوفره قانون التحكيم لعام 1996. يهدف هذا المقال إلى استعراض تفصيلي لخطوات وإجراءات التحكيم في القانون البريطاني، مع تسليط الضوء على أبرز جوانبه ومميزاته.

الإطار القانوني: قانون التحكيم لعام 1996

يُشكل قانون التحكيم لعام 1996 (Arbitration Act 1996) حجر الزاوية في نظام التحكيم البريطاني. يُعتبر هذا القانون نموذجًا تشريعيًا عالميًا، وقد صيغ ليعكس مبادئ أساسية تدعم فعالية التحكيم وتحد من تدخل المحاكم. تتلخص المبادئ الرئيسية للقانون في ثلاثة محاور:

خطوات وإجراءات التحكيم في القانون البريطاني

يمر التحكيم في القانون البريطاني بعدة مراحل منظمة، بدءًا من الاتفاق على التحكيم ووصولاً إلى إصدار القرار التحكيمي وإنفاذه:

 1. اتفاق التحكيم (The Arbitration Agreement)

تُعد هذه الخطوة هي الأساس الذي يقوم عليه التحكيم بأكمله. يجب أن يكون هناك اتفاق تحكيم صالح (valid arbitration agreement) بين الأطراف. يمكن أن يتخذ هذا الاتفاق شكلين رئيسيين:

شرط التحكيم (Arbitration Clause):وهو الأكثر شيوعًا، حيث يُدرج كبند ضمن العقد الأصلي بين الأطراف، وينص على تسوية أي نزاعات مستقبلية تنشأ عن العقد عن طريق التحكيم.

اتفاق الخضوع للتحكيم (Submission Agreement): يُبرم هذا الاتفاق بعد نشوء النزاع، حيث تتفق الأطراف صراحة على إحالة النزاع القائم إلى التحكيم.

يشترط القانون البريطاني أن يكون اتفاق التحكيم مكتوبً، سواء كان ذلك في وثيقة واحدة أو عبر تبادل رسائل أو مراسلات أخرى. يمنح اتفاق التحكيم المحكمين سلطتهم، ويُجرد المحاكم الوطنية من اختصاصها في النظر في النزاع (ما لم ينص القانون على خلاف ذلك في حالات محددة جدًا).

1. استقلالية الأطراف (Party Autonomy): يمنح القانون الأطراف حرية واسعة في تحديد كيفية سير إجراءات التحكيم، بدءًا من اختيار المحكمين وصولاً إلى تحديد القواعد الإجرائية. هذا المبدأ هو جوهر مرونة التحكيم.

2. التدخل المحدود للمحكمة (Limited Court Intervention): يهدف القانون إلى تقليل تدخل المحاكم في عملية التحكيم قدر الإمكان، مع التأكيد على دور المحاكم الداعم للعملية التحكيمية بدلاً من أن يكون إشرافيًا أو رقابيًا.

3. واجب المحكمة (Duty of the Tribunal): يُلزم القانون هيئة التحكيم بالتصرف بنزاهة وحيادية، وتوفير وسيلة عادلة لحل النزاع دون تأخير أو تكلفة غير ضرورية.

2. بدء التحكيم (Commencement of Arbitration)

تبدأ عملية التحكيم عادة عندما يقوم أحد الأطراف بإشعار الطرف الآخر أو الأطراف الأخرى ببدء إجراءات التحكيم وفقًا لشروط اتفاق التحكيم. يتضمن هذا الإشعار عادة تحديد طبيعة النزاع والدعوة إلى تعيين محكم.

 تُعد هذه الخطوة حاسمة. يمكن أن يكون هناك محكم واحد أو هيئة تحكيم مكونة من ثلاثة محكمين أو أكثر. يحدد اتفاق التحكيم عادةً كيفية تعيين المحكمين. في حالة عدم وجود اتفاق، يوفر قانون التحكيم لعام 1996 آليات افتراضية للتعيين، وقد تتدخل المحكمة في حالات نادرة لتعيين محكم إذا تعذر على الأطراف أو الجهة المعنية التعيين. يمكن للأطراف اختيار محكمين بناءً على خبرتهم القانونية أو الفنية في مجال النزاع.

 

تعيين المحكمين (Appointment of Arbitrators):

التحكيم عن بُعد في السعودية باستخدام التكنولوجيا الرقمية لفض المنازعات القانونية

الطعون القضائية على الاختصاص (Jurisdictional Challenges)

يمكن لأي طرف أن يطعن في اختصاص هيئة التحكيم (أي سلطتها في النظر في النزاع). يلتزم قانون التحكيم لعام 1996 بمبدأ *”الكفاءة-الكفاءة” (Kompetenz-Kompetenz)*، الذي يسمح لهيئة التحكيم بأن تقرر بنفسها ما إذا كانت تتمتع بالاختصاص لنظر النزاع. إذا قررت هيئة التحكيم أن لديها الاختصاص، يمكن للطرف المعترض رفع الأمر إلى المحكمة العليا (High Court) للبت في مسألة الاختصاص، ولكن هذا يتم عادة بعد صدور قرار هيئة التحكيم بشأن اختصاصها.

سير الإجراءات التحكيمية (Conduct of Proceedings)

تُعد هذه المرحلة هي جوهر العملية التحكيمية، حيث يتم عرض الحجج والأدلة. يمنح قانون التحكيم لعام 1996 هيئة التحكيم صلاحية واسعة في تحديد كيفية سير الإجراءات، مع مراعاة مبدأ المعاملة العادلة للأطراف. تشمل الإجراءات عادة ما يلي:

* *تبادل المذكرات (Exchange of Pleadings/Statements of Case):* يقدم كل طرف مذكراته التي تحدد مطالباته ودفاعاته وحججه القانونية والواقعية.
* *الكشف عن المستندات (Disclosure of Documents):* يتم تبادل المستندات ذات الصلة بالنزاع بين الأطراف. يمكن أن تكون هذه العملية أقل شمولاً من الكشف في التقاضي التقليدي، ولكنها تظل ضرورية لضمان الشفافية.
* *الجلسات الشفوية (Evidentiary Hearings):* في بعض الحالات، قد تعقد جلسات للاستماع إلى شهادات الشهود أو الخبراء، حيث يتم استجوابهم من قبل الأطراف. يمكن أن تكون هذه الجلسات خاصة وسرية.
* *الإجراءات المؤقتة (Interim Measures):* يمكن لهيئة التحكيم أن تصدر أوامر مؤقتة، مثل أوامر الحفظ أو أوامر بتقديم ضمانات مالية (security for costs)، لدعم عملية التحكيم. كما يمكن للأطراف اللجوء إلى المحاكم للحصول على أوامر مؤقتة داعمة في حالات معينة.

القرار التحكيمي (The Arbitral Award)

 

القرار التحكيمي (The Arbitral Award)

بعد انتهاء الإجراءات، تصدر هيئة التحكيم القرار التحكيمي (arbitral award). يجب أن يكون القرار مكتوبًا ومسببًا (ما لم يتفق الأطراف على خلاف ذلك)، ويجب أن يحدد تاريخ صدوره ومكان التحكيم. يمكن أن يكون القرار:

نهائيًا (Final Award): يحل النزاع بشكل كامل.
مؤقتًا أو جزئيًا (Interim or Partial Award): يحل جزءًا معينًا من النزاع أو يصدر أمرًا مؤقتًا.

الطعن في القرار التحكيمي (Challenging the Award)

يُعد الطعن في القرارات التحكيمية في القانون البريطاني *محدودًا للغاية*، وذلك بهدف تعزيز النهائية للتحكيم. يمكن الطعن في القرار التحكيمي أمام المحكمة العليا فقط في حالات استثنائية جدًا، وهي:

عدم الاختصاص (Lack of Jurisdiction): إذا تجاوزت هيئة التحكيم سلطتها الممنوحة لها بموجب اتفاق التحكيم.
المخالفة الجسيمة (Serious Irregularity): وهي حالات نادرة جدًا تتضمن انتهاكات خطيرة للإجراءات التحكيمية تؤثر بشكل كبير على حق الطرف في المعاملة العادلة، مثل عدم القدرة على تقديم حججه أو وجود تحيز واضح.
خطأ في القانون (Error of Law): في حالات معينة ومحدودة، يمكن للأطراف الاتفاق على حق الطعن في القرار بناءً على خطأ قانوني واضح في القرار، ولكن هذا الحق يمكن استبعاده باتفاق الأطراف.

إنفاذ القرار التحكيمي (Enforcement of the Award)

بمجرد صدور القرار التحكيمي، يصبح ملزمًا للأطراف. يتميز التحكيم البريطاني بقوة إنفاذ قراراته، سواء على المستوى المحلي أو الدولي.

الإنفاذ المحلي: يمكن إنفاذ القرار التحكيمي في إنجلترا وويلز بنفس طريقة إنفاذ حكم المحكمة، بعد الحصول على إذن من المحكمة.
الإنفاذ الدولي: تُعد المملكة المتحدة طرفًا في اتفاقية نيويورك للاعتراف بقرارات التحكيم الأجنبية وإنفاذها لعام 1958 (New York Convention). هذا يعني أن القرارات التحكيمية الصادرة في المملكة المتحدة يمكن إنفاذها في أكثر من 160 دولة حول العالم التي هي أيضًا أطراف في الاتفاقية، والعكس صحيح. هذا يمنح القرارات التحكيمية الصادرة في لندن قوة إنفاذ عالمية استثنائية.