
مقدمة:
تعتبر مسألة تقدير التعويض عن الأضرار الناجمة عن الإصابات الجسدية من المسائل القانونية الدقيقة التي تثير جدلاً واسعاً في الأوساط القانونية والقضائية. تتداخل في هذه المسألة اعتبارات قانونية بحتة مع مبادئ العدالة والإنصاف، فضلاً عن الرجوع إلى الأسس الشرعية والفقهية التي تستمد منها الأنظمة القانونية في العديد من الدول العربية جوهرها ومبادئها. يكتسب هذا الموضوع أهمية مضاعفة في ضوء التوجهات القضائية الحديثة التي تسعى إلى تحقيق التوازن بين حماية حقوق المتضررين وضمان عدم إرهاق المسؤولين عن الضرر بتعويضات مبالغ فيها.
في هذا السياق، يبرز الحكم الصادر عن المحكمة العليا في الطعن رقم ٢٠١٦/٨٦١م كمبدأ قضائي هام يستحق الدراسة والتحليل المتعمق. فقد قضت المحكمة بقبول الطعن شكلاً، وفي الموضوع بنقض الحكم المطعون فيه، وحكمت في الاستئناف رقم (٢٠١٦/٢٧٩م) بتعديل الحكم المستأنف برفع مبلغ التعويض إلى سبعة آلاف وأربعمائة ريال عماني تعويضاً للطاعن عما أصابه من أضرار، بينما قضت في الاستئناف رقم (٢٠١٦/٣٢١م) برفضه وألزمت المطعون ضدها بالمصاريف.
الأكثر أهمية في هذا الحكم هو تأكيد المحكمة العليا على المبدأ الذي يقضي بوجوب الرجوع إلى الفقه الإسلامي عند تقدير التعويض عن الإصابة. فإذا كان في الفقه للإصابة دية أو أرش مقدر، وجب تطبيقه على الإصابة. أما إذا لم يكن لها دية أو أرش مقدر، ففي هذه الحالة تملك المحكمة سلطة تقدير التعويض الجابر للضرر استناداً إلى ما يطلق عليه “حكومة العدل”، على أن يكون التقدير من مطلق الدية الكبرى.
يهدف هذا المقال إلى تحليل هذا المبدأ القضائي الصادر عن المحكمة العليا، وتسليط الضوء على أهميته وتطبيقاته المحتملة في القضاء العماني والمقارن. كما سيتناول المقال الأسس الفقهية لمفهومي الدية والأرش وحكومة العدل، وكيف يمكن للمحاكم الاستفادة من هذه المفاهيم في تحقيق العدالة في قضايا التعويض عن الإصابات.
أولاً: المبدأ القضائي الصادر من المحكمة العليا في سلطنة عمان وأهميته:
يمثل قرار المحكمة العليا في الطعن رقم ٢٠١٦/٨٦١م خطوة هامة نحو تعزيز دور الفقه الإسلامي في النظام القضائي العماني، خاصة في مجال تقدير التعويض عن الأضرار الجسدية. إن تأكيد المحكمة على أولوية الرجوع إلى أحكام الدية والأرش المقدرة في الفقه الإسلامي يضفي على الأحكام القضائية سنداً شرعياً قوياً، ويعزز من مبدأ اليقين القضائي من خلال الاستناد إلى معايير واضحة ومحددة قدر الإمكان.
كما أن إجازة المحكمة لسلطة القاضي في تقدير التعويض بناءً على “حكومة العدل” في الحالات التي لا يوجد فيها تقدير محدد للدية أو الأرش، مع التقييد بأن يكون التقدير من مطلق الدية الكبرى، يمثل مرونة ضرورية للتعامل مع الحالات المستجدة والمعقدة التي قد لا تجد لها نظيراً مباشراً في النصوص الفقهية القديمة. هذا المبدأ يوازن بين الالتزام بالأسس الشرعية ومنح القاضي سلطة تقديرية لتحقيق العدالة في كل قضية على حدة.
إن الإشارة إلى أن هذا الحكم يمثل “مبدأ المحكمة العليا” يكسبه قوة إلزامية وتوجيهية لبقية المحاكم الأدنى درجة، مما يسهم في توحيد التطبيقات القضائية في قضايا التعويض عن الإصابات ويقلل من التباين في الأحكام الصادرة في قضايا مماثلة.
ثانياً: مفاهيم الدية والأرش وحكومة العدل في الفقه الإسلامي:
لفهم أبعاد المبدأ القضائي الذي أرسته المحكمة العليا، من الضروري التعرف على المفاهيم الفقهية الأساسية التي استند إليها:
- الدية: هي مبلغ محدد من المال يُدفع لجبر الضرر الناتج عن القتل الخطأ أو الإصابات التي لها تقدير محدد في الشريعة الإسلامية. تختلف مقادير الدية وأنواعها باختلاف المذاهب الفقهية، ولكن هناك قدر متفق عليه للدية الكاملة في القتل الخطأ. كما أن هناك ديات مقدرة لأعضاء الجسم ووظائفه في حالة الإتلاف أو الإعاقة.
- الأرش: هو تعويض مالي يُدفع عن الإصابات التي ليس لها دية مقدرة شرعاً. يتم تقدير الأرش بناءً على نسبة الضرر الواقع على العضو أو الوظيفة المتضررة مقارنة بالدية الكاملة للعضو أو النفس. يعتبر الأرش نوعاً من التعويض التكميلي للدية في بعض الحالات، أو تعويضاً أصلياً للإصابات التي لا تدخل ضمن تقديرات الدية المحددة.
- حكومة العدل: هي مصطلح فقهي يشير إلى تقدير التعويض عن الأضرار التي ليس لها تقدير محدد في الشريعة الإسلامية، وذلك بناءً على رأي أهل الخبرة والعدل. يتم اللجوء إلى حكومة العدل في الحالات التي يصعب فيها تحديد مقدار التعويض بناءً على معايير ثابتة، مثل حالات التشوهات غير المحددة، أو الآلام والأوجاع غير المادية بشكل مباشر. يعتمد تقدير حكومة العدل على مقارنة الضرر موضوع الدعوى بأشباهه ونظائره، والأخذ في الاعتبار مدى تأثير الضرر على حياة المتضرر وقدرته على العمل.
إن تقييد المحكمة العليا لتقدير حكومة العدل بأن يكون “من مطلق الدية الكبرى” يمثل ضابطاً هاماً يهدف إلى منع المغالاة في تقدير التعويض في هذه الحالات. فالدية الكبرى تمثل الحد الأقصى للتعويض عن إزهاق النفس، وبالتالي يجب ألا يتجاوز التعويض عن أي ضرر آخر جزءاً معقولاً من هذا المبلغ.
ثالثاً: تطبيقات المبدأ القضائي وآثاره:
يترتب على المبدأ القضائي الذي أرسته المحكمة العليا مجموعة من الآثار والتطبيقات العملية الهامة:
- إلزام المحاكم بالرجوع إلى الفقه الإسلامي: يصبح لزاماً على المحاكم عند نظر قضايا التعويض عن الإصابات أن تبحث أولاً فيما إذا كان للفقه الإسلامي أحكام محددة بشأن دية أو أرش للإصابة محل النزاع. فإذا وجد تقدير فقهي معتبر، وجب على المحكمة تطبيقه.
- تحديد نطاق سلطة المحكمة التقديرية: في الحالات التي لا يوجد فيها تقدير فقهي محدد، تمارس المحكمة سلطتها التقديرية في تحديد التعويض بناءً على حكومة العدل، ولكن مع الالتزام بالحد الأعلى الذي تمثله الدية الكبرى. هذا يقلل من احتمالات التفاوت الكبير في الأحكام الصادرة في قضايا مماثلة.
- الاستعانة بالخبرة الفنية: في تقدير الأرش وحكومة العدل، قد تحتاج المحكمة إلى الاستعانة بالخبرة الطبية لتقدير نسبة العجز أو الضرر الناجم عن الإصابة، وبالخبرة القانونية والفقهية لتقدير التعويض المناسب في ضوء المبادئ الشرعية والقانونية.
- تعزيز العدالة والإنصاف: من شأن تطبيق هذا المبدأ أن يعزز من تحقيق العدالة والإنصاف في قضايا التعويض عن الإصابات، حيث يتم تعويض المتضررين بناءً على أسس شرعية وقانونية واضحة، مع مراعاة الظروف الخاصة بكل حالة.
- التأثير على التشريعات المستقبلية: قد يكون لهذا المبدأ القضائي تأثير على صياغة التشريعات المستقبلية المتعلقة بالتعويض عن الأضرار، حيث يمكن للمشرع أن يستلهم من الأحكام الفقهية والمبادئ القضائية في وضع نصوص قانونية أكثر تفصيلاً ووضوحاً في هذا المجال.
رابعاً: تحليل الحكم في ضوء المبدأ القضائي:
بالنظر إلى الحكم الصادر في الطعن رقم ٢٠١٦/٨٦١م، نجد أن المحكمة العليا قد طبقت المبدأ الذي أرساه بنفسها. ففي الاستئناف رقم (٢٠١٦/٢٧٩م)، قامت المحكمة بتعديل الحكم المستأنف ورفعت مبلغ التعويض إلى سبعة آلاف وأربعمائة ريال عماني. من غير الواضح من منطوق الحكم تفاصيل الإصابات التي لحقت بالطاعن، ولكن قرار المحكمة برفع مبلغ التعويض يشير إلى أنها رأت أن التقدير السابق كان أقل من المستحق في ضوء الضرر الواقع، وربما استندت في تقديرها الجديد إلى أحكام الدية أو الأرش المقدرة في الفقه الإسلامي أو إلى حكومة العدل في إطار الدية الكبرى.
أما في الاستئناف رقم (٢٠١٦/٣٢١م)، فقد قضت المحكمة برفضه، مما يعني أنها أيدت الحكم المستأنف في هذه الحالة، ربما لكون التعويض المقضي به كان متوافقاً مع أحكام الفقه الإسلامي أو مع تقدير عادل للضرر في إطار حكومة العدل.
إن الإشارة إلى أن هذا الحكم يمثل “مبدأ المحكمة العليا” يعطي دلالة واضحة على أن المحكمة تتبنى هذا التوجه في تقدير التعويض عن الإصابات، وأنها ستلتزم به في القضايا المستقبلية، وستوجه المحاكم الأدنى درجة إلى تطبيقه.
خامساً: مقارنة مع أنظمة قانونية أخرى:
تجدر الإشارة إلى أن توجه المحكمة العليا بالرجوع إلى الفقه الإسلامي في تقدير التعويض عن الإصابات ليس فريداً من نوعه في العالم الإسلامي. فالعديد من الدول العربية والإسلامية تستمد أنظمتها القانونية من الشريعة الإسلامية بشكل أو بآخر، وتولي أحكام الفقه الإسلامي اعتباراً خاصاً في مختلف المجالات القانونية، بما في ذلك قضايا التعويض عن الأضرار.
في بعض الدول، يتم تقنين أحكام الدية والأرش في قوانين العقوبات أو القوانين المدنية، مع تحديد مقاديرها وأنواع الإصابات التي تستوجبها. وفي دول أخرى، تترك المسألة لتقدير القاضي بالاستعانة بآراء الفقهاء وأهل الخبرة.
إن الميزة في مبدأ المحكمة العليا العمانية تكمن في وضوح التوجيه بضرورة الرجوع إلى الفقه الإسلامي أولاً، ثم إعمال سلطة المحكمة التقديرية في إطار محدد في الحالات التي لا يوجد فيها نص فقهي مباشر. هذا يجمع بين الالتزام بالأصول الشرعية والمرونة في التطبيق القضائي.
الخلاصة:
يمثل المبدأ القضائي الصادر عن المحكمة العليا في الطعن رقم ٢٠١٦/٨٦١م خطوة رائدة نحو تعزيز دور الفقه الإسلامي في تقدير التعويض عن الإصابات في النظام القضائي العماني. إن إلزام المحاكم بالرجوع إلى أحكام الدية والأرش المقدرة في الفقه الإسلامي أولاً، ثم إجازة تقدير التعويض بناءً على حكومة العدل في إطار الدية الكبرى، يوازن بين الالتزام بالأسس الشرعية ومنح القاضي سلطة تقديرية لتحقيق العدالة في كل قضية على حدة.
على الرغم من بعض التحديات التي قد تصاحب تطبيق هذا المبدأ، إلا أن من شأنه أن يسهم في توحيد التطبيقات القضائية، وتعزيز العدالة والإنصاف في قضايا التعويض عن الأضرار الجسدية. إن استمرار البحث والاجتهاد في هذا المجال، وتأهيل الكوادر القضائية والقانونية، والاستفادة من الخبرات المقارنة، سيسهم في ترسيخ هذا المبدأ وتحقيق أهدافه النبيلة في حماية حقوق المتضررين وإقامة العدل بين الناس.
✍️ كاتب المقال:
يوسف الخضوري – محامٍ ومستشار قانوني – سلطنة عُمان
https://law-yuosif.com/التعويض-عن-الفعل-الضار-في-القانون-المد/
https://law-yuosif.com/دعوى-التعويض-في-القانون-العماني/
https://law-yuosif.com/بطلان-الشروط-المخالفة-لقانون-العمل-ال/
https://qanoon.om/p/2002/rd2002029/