بقلم المحامي والمحكم/يوسف الخضوري

مقدم:
يمثل القانون التجاري في سلطنة عمان الركيزة الأساسية لتنظيم الأنشطة الاقتصادية وتحديد الإطار القانوني للمعاملات التجارية التي يقوم بها الأفراد والشركات على حد سواء. يهدف هذا القانون إلى توفير بيئة تجارية عادلة وشفافة، تساهم في تعزيز النمو الاقتصادي وتنمية الاستثمار في السلطنة. يستند القانون التجاري العماني إلى مبادئ راسخة مستمدة من الشريعة الإسلامية الغراء والأعراف التجارية المستقرة، مع الأخذ في الاعتبار التطورات الاقتصادية والقانونية الحديثة.
نطاق سريان القانون التجاري: نظرة عامة (المادة ١)
تُستهل مدونات القانون التجاري العماني بتحديد نطاق سريانه بشكل واضح وشامل. تنص المادة (١) صراحة على أن أحكام هذا القانون تسري على فئتين رئيسيتين: التجار و جميع الأعمال التجارية التي يقوم بها أي شخص، حتى وإن لم يكن محترفًا للتجارة. هذا التوسع في نطاق السريان يعكس حرص المشرع العماني على إخضاع جميع الأنشطة ذات الطابع التجاري لأحكام قانونية موحدة، بما يضمن تحقيق العدالة والاستقرار في المعاملات.
فبالنسبة *للتجار، يعتبر القانون التجاري هو القانون الأساسي الذي يحكم التزاماتهم وحقوقهم الناشئة عن ممارسة نشاطهم التجاري. أما بالنسبة *للأعمال التجارية التي يقوم بها غير التجار بشكل عرضي أو غير منتظم، فإن إخضاعها لأحكام هذا القانون يهدف إلى ضمان تطبيق قواعد قانونية واضحة ومحددة على هذه الأعمال، بدلًا من إخضاعها للقواعد العامة في القانون المدني التي قد لا تتناسب دائمًا مع طبيعة المعاملات التجارية السريعة والمتغيرة.
الأسس القانونية للمعاملات التجارية: العقد والعرف والشريعة (المواد ٢-٥)
يُولي القانون التجاري العماني أهمية قصوى للعقود باعتبارها المصدر الرئيسي للالتزامات والحقوق بين الأطراف التجارية. تنص المادة (٢) على أن القواعد التي تسري على التجار والأعمال التجارية يُعتد فيها بالعقود المعتبرة قانونًا، وأن هذه العقود تنتج آثارها بمجرد توافق الإيجاب والقبول، ما لم ينص القانون على خلاف ذلك. هذه المادة تؤكد على مبدأ سلطان الإرادة في العقود التجارية، مع إجازة تدخل القانون في بعض الحالات لتنظيم جوانب معينة أو لحماية أطراف ضعيفة.
وفي سياق إثبات العقود التجارية، يتبنى القانون التجاري العماني مبدأ *حرية الإثبات. *تنص المادة (٣) على أن الأصل في العقود التجارية جواز إثباتها بكافة طرق الإثبات مهما كانت قيمتها، إلا إذا نص القانون على خلاف ذلك. هذه المرونة في الإثبات تتناسب مع طبيعة المعاملات التجارية التي غالبًا ما تتم بسرعة وثقة متبادلة بين التجار.
أما في الحالات التي لا يوجد فيها عقد ينظم العلاقة بين الأطراف، أو إذا كان العقد صامتًا عن حكم مسألة معينة، أو إذا كان الحكم الوارد في العقد باطلًا، فإن القانون التجاري العماني يضع ترتيبًا واضحًا للمصادر القانونية التي يتم الرجوع إليها. تنص المادة (٤) على أنه في هذه الحالات، تسري النصوص التشريعية الواردة في هذا القانون والقوانين الأخرى ذات الصلة.
وإذا لم يوجد نص تشريعي يُنظم المسألة المعروضة، فإن القانون التجاري العماني يلجأ إلى *العرف التجاري. *تنص المادة (٥) على أن قواعد العرف تسري في هذه الحالة، مع تقديم العرف الخاص أو المحلي على العرف العام. وإذا لم يوجد عرف تجاري معمول به، يتم الرجوع إلى أحكام الشريعة الإسلامية الغراء باعتبارها مصدرًا أساسيًا للتشريع في سلطنة عمان، ثم أخيرًا إلى قواعد العدالة لضمان تحقيق الإنصاف في المنازعات التجارية.
تحديد الجهات القضائية المختصة (المادة ٦)
تُعنى المادة (٦) بتحديد الجهة القضائية المختصة بنظر المنازعات التجارية الناشئة عن تطبيق أحكام هذا القانون. تشير المادة إلى “هيئة حسم المنازعات التجارية” أو أية محكمة أخرى يُنشئها قانون لاحق لهذا الغرض. هذا التحديد يهدف إلى تخصيص جهات قضائية ذات خبرة في التعامل مع القضايا التجارية، مما يساهم في سرعة الفصل في المنازعات وتحقيق العدالة المتخصصة.
استثناءات من نطاق القانون التجاري (المادة ٧)
تستثني المادة (٧) بعض المجالات والكيانات التجارية من الخضوع المباشر لأحكام القانون التجاري، حيث تخضع هذه المجالات لقوانين خاصة تنظمها بشكل تفصيلي. تشمل هذه الاستثناءات الشركات التجارية، العلامات والبيانات التجارية، السجل التجاري، غرفة تجارة وصناعة عمان، وسوق مسقط للأوراق المالية. ومع ذلك، تستثني المادة من هذا الاستثناء أحكام الفصل الأول من الباب الخامس من الكتاب الثالث المتعلقة بالوكالة التجارية والوكالة بالعمولة والممثلين التجاريين، حيث تخضع هذه الأنشطة لأحكام القانون التجاري مع عدم الإخلال بقانون الوكالات التجارية.
تحديد الأعمال التجارية: معيار المضاربة وأنواع الأعمال (المادتان ٨ و ٩)
يُعرف القانون التجاري العماني العمل التجاري في المادة (٨) بأنه “الأعمال التي يقوم بها الشخص بقصد المضاربة ولو كان غير تاجر”. هذا التعريف يركز على نية تحقيق الربح كمعيار أساسي لتكييف العمل بأنه تجاري.
وتفصل المادة (٩) مجموعة واسعة من الأعمال التي تُعد بوجه خاص أعمالًا تجارية، وتشمل قائمة طويلة ومتنوعة تغطي مختلف القطاعات الاقتصادية. من أبرز هذه الأعمال:
- شراء وبيع المنقولات بقصد الربح: سواء كانت هذه المنقولات في حالتها الأصلية أو بعد تصنيعها أو تحويلها.
- شراء وتأجير المنقولات بقصد إعادة تأجيرها: وهذا يشمل أنشطة تأجير المعدات والآلات والمركبات وغيرها.
- شراء العقارات بقصد الربح من بيعها: سواء كانت البيع بحالتها الأصلية أو بعد تجزئتها.
- عقود التوريد والعمالة: وتشمل توفير السلع والخدمات للغير بعوض.
- معاملات المصارف وأعمال الصرافة والمبادلة المالية: وتنظم أنشطة المؤسسات المالية المختلفة.
- أعمال السمسرة والوكالات التجارية: وتشمل الوساطة في إبرام الصفقات التجارية.
- الأوراق التجارية: كالكمبيالات والسندات لأمر والشيكات، والتي تعتبر أدوات ائتمان ووفاء في المعاملات التجارية.
- تأسيس الشركات التجارية والتعامل في أسهمها وسنداتها: وينظم الأنشطة المتعلقة بالاستثمار في الشركات.
- المخازن العامة والرهون المترتبة عليها: وتشمل الخدمات اللوجستية والتخزينية.
- استخراج الموارد الطبيعية: كالمعادن والزيوت والأحجار.
- التأمين بأنواعه المختلفة: وينظم أنشطة شركات التأمين.
- المحلات المعدة للجمهور: كالملاعب ودور السينما والفنادق والمطاعم.
- امتيازات المرافق العامة: كتوزيع الماء والكهرباء والغاز والاتصالات.
- النقل برا وبحرا وجوا: وينظم أنشطة شركات النقل المختلفة.
- وكالات الأعمال ومكاتب السياحة والتصدير والاستيراد: وتشمل الخدمات التجارية المتنوعة.
- الأعمال المتعلقة بالطباعة والنشر والصحافة والإعلام: وتنظم الأنشطة الإعلامية والثقافية.
- إنشاء المصانع والتعهد بالإنشاء والصنع: وينظم الأنشطة الصناعية والمقاولات.
- الأعمال المتعلقة بمقاولات التشييد والإنشاءات: وتشمل أنشطة البناء والترميم والهدم.
هذه القائمة ليست حصرية، بل وردت على سبيل المثال، حيث أن أي عمل آخر يهدف إلى تحقيق الربح من خلال التداول يعتبر عملًا تجاريًا وفقًا للمادة (٨).
الأعمال التجارية البحرية والجوية (المادة ١٠)
تُفرد المادة (١٠) أحكامًا خاصة بالأعمال المتعلقة بالملاحة البحرية والجوية، وتعتبرها أعمالًا تجارية بطبيعتها. وتشمل هذه الأعمال إنشاء وبيع وشراء وتأجير واستئجار وإصلاح السفن والطائرات، والعقود المتعلقة بأجور ورواتب العاملين عليها، والإقراض والاستقراض المتعلق بهذه الأنشطة، وعمليات النقل البحري والجوي وما يتعلق بها من شراء وبيع اللوازم والمؤن والوقود، والتأمين البحري والجوي بأنواعه المختلفة. هذا النص يؤكد على الطبيعة التجارية الخاصة لهذه الأنشطة نظرًا لطبيعتها الدولية وتعقيداتها.
الأعمال المرتبطة والمسهلة للأعمال التجارية (المادة ١١)
تُوسع المادة (١١) نطاق الأعمال التجارية ليشمل الأعمال المرتبطة بالمعاملات التجارية المذكورة سابقًا أو المسهلة لها، بالإضافة إلى جميع الأعمال التي يقوم بها التاجر لحاجات تجارية. هذا النص يهدف إلى تغطية الأنشطة التي تعتبر ضرورية لممارسة التجارة أو تسهيلها، حتى وإن لم تكن منصوصًا عليها بشكل صريح في المواد السابقة.
قرينة تجارية العقود والالتزامات (المادة ١٢)
تُنشئ المادة (١٢) قرينة قانونية مفادها أن الأصل في عقود التاجر والتزاماته أن تكون تجارية، ما لم يتم تقديم دليل على خلاف ذلك. هذه القرينة تسهل تطبيق أحكام القانون التجاري على تصرفات التاجر، حيث يُفترض أن أي عقد أو التزام ينشأ عن نشاطه التجاري يخضع لهذا القانون.
تجزئة الصفة التجارية للعقد (المادة ١٣)
تعالج المادة (١٣) حالة ما إذا كان العقد تجاريًا بالنسبة لأحد المتعاقدين دون الآخر. في هذه الحالة، تقرر المادة سريان أحكام القانون التجاري على التزامات كل منهما الناشئة عن هذا العقد، ما لم يوجد نص قانوني يقضي بخلاف ذلك. هذا الحكم يضمن تطبيق قواعد قانونية متناسقة على جميع جوانب العقد المختلط.
استثناءات محددة من الأعمال التجارية (المادتان ١٤ و ١٥)
تورد المادتان (١٤) و (١٥) استثناءات محددة لبعض الأنشطة التي لا تعتبر أعمالًا تجارية على الرغم من أنها قد تتضمن بيعًا أو إنتاجًا. تنص المادة (١٤) على أن إنتاج الفنان لعمل فني بنفسه أو باستخدامه عمالًا، وبيعه، وطبع المؤلف مؤلفه وبيعه، لا يعتبر عملًا تجاريًا. هذا الاستثناء يراعي الطبيعة الإبداعية والفكرية لهذه الأنشطة.
وبالمثل، تنص المادة (١٥) على أن بيع المزارع للحاصلات الناتجة من أرضه أو التي يزرعها، ولو بعد تحويلها بالوسائل المتاحة له في استغلاله الزراعي، لا يعتبر عملًا تجاريًا. هذا الاستثناء يهدف إلى تشجيع الزراعة وحماية المزارعين.
خلاصة
يمثل القانون التجاري في سلطنة عمان منظومة قانونية متكاملة تهدف إلى تنظيم الأنشطة التجارية وتوفير بيئة قانونية مستقرة وشفافة للتجار والأفراد الذين يمارسون أعمالًا تجارية. من خلال تحديده الواضح لنطاق سريانه، وتأكيده على أهمية العقود والأعراف التجارية، وتحديده للأعمال التي تعتبر تجارية بطبيعتها، يساهم هذا القانون في تعزيز النمو الاقتصادي وحماية حقوق جميع الأطراف المتعاملة في السوق العماني. إن المواد التي تم استعراضها في هذا المقال، والتي تمثل الأحكام العامة والأعمال التجارية في القانون، تشكل الأساس الذي تُبنى عليه باقي فصول وأبواب هذا القانون الحيوي.
بقلم المحامي والمحكم / يوسف الخضوري
رابط القانون التجاريhttps://qanoon.om/p/1990/l1990055/
رابط مقال /https://law-yuosif.com/القانون-التجاري-في-سلطنة-عمان-التشريع/